كان لا بدّ من دعم مصر عربياً. تمثّل مصر حالياً الحصن الأخير في المنطقة، خصوصاً بوجود إدارة أميركية لا تعرف ماذا تريد، بل ربّما تعرف ما تريد أكثر من اللزوم بعدما اتخذت موقفاً يتسّم بقصر النظر من الثورة الشعبية الاخيرة في مصر، أي ثورة الثلاثين من يونيو. يتمثل هذا الموقف الاميركي في قطع معظم المساعدات عن مصر، علماً أنها تواجه هجمة شرسة تستهدف كلّ مؤسسات الدولة المصرية. استثنت أميركا المساعدات المخصصة لمكافحة الارهاب في سيناء. مرّة أخرى يبدو همّها محصوراً بهاجس الامن الاسرائيلي. أمّا الأمن المصري، أي أمن مصر نفسها في القاهرة والاسكندرية والمدن والمناطق الاخرى، فمسموح العبث به.
عندما تتصرّف الإدارة الاميركية بالطريقة التي تصرّفت بها مع مصر، يصير من السهل فهم لماذا هذا الموقف المضحك - المبكي من ثورة الشعب السوري المستمرّة منذ واحد وثلاثين شهراً. انّها ثورة على نظام قاتل لا هدف له سوى اذلال المواطن وقهره. فعندما تختزل إدارة باراك أوباما قضية الشعب السوري وثورته ودماء ابنائه بالسلاح الكيميائي، خشية أن يستخدم يوماً ضدّ اسرائيل، يصبح كلّ شيء ممكناً. يصبح ممكناً أيضاً التغاضي الاميركي عن الظلم اللاحق بلبنان واللبنانيين الذين يعانون الامرّين من ميليشيا مذهبية تابعة لايران تمنعهم من تشكيل حكومة تليق بالمواطنين الأوادم وليس بشبيحة آخر زمان، من الذين صاروا يعتبرون انفسهم خبراء في شؤون النفط والغاز!
صارت الحكومة المستقيلة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، بالطريقة التي شكّلت بها والعناصر التي تضمّها، سابقة لا يمكن تجاوزها لبنانياً نظراً الى أنها جاءت لتؤكد أن الحكومة اللبنانية، أي حكومة لبنانية، لا تشكل في مكان آخر غير طهران. تماماً كما حصل قبل ذلك في العراق حيث لم تبصر حكومة السيد نوري المالكي النور إلاّ بعد الفيتو الذي وضعته طهران على الدكتور أياد علاوي الفائز في انتخابات 2010. هذا ما قبلت به الإدارة الاميركية في العراق وليس مستبعداً أن ترضخ له في لبنان اذا لم يوجد من يقول لها أن كفى تعني كفى وأن لبنان لن يكون مستعمرة ايرانية يديرها حزب الله بمجرّد أن يدير ظهره لاسرائيل ويوجّه سلاحه الى صدور اللبنانيين والسوريين...
من يرصد التصرّفات الاميركية من مصر، الى ليبيا، الى سوريا ولبنان... وصولاً الى العراق وايران ومروراً بما بقي من القضيّة الفلسطينية، لا يستطيع إلا أن يشعر بالقلق. فهذه إدارة يتبيّن كلّ يوم أنها لا تعرف شيئاً عن المنطقة، أو انها لا تريد أن تعرف شيئاً عنها أو عن قوى الظلام والتطرّف فيها.
ليس مطلوباً بالطبع أن يكون هناك أي اعتراض عربي، من أي نوع كان، على تقارب أميركي- ايراني. مثل هذا التقارب يمكن أن يصبّ في خدمة الاستقرار في المنطقة، خصوصاً اذا كان في استطاعة الولايات المتحدة التفاهم مع الايرانيين في شأن دورهم الاقليمي بعيداً عن الاوهام.
فالخطر الايراني لا يمكن أيضاً اختزاله بالملف النووي من الزاوية الاسرائيلية تحديداً. الخطر الايراني كامن في اثارة الغرائز المذهبية أوّلاً، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن وهذا البلد الخليجي... والمتاجرة بالفلسطينيين وقضيّتهم. وهذا ما يهدّد بتفتيت المنطقة، خصوصاً بعد دفع ايران حزب الله وميليشيات عراقية شيعية الى مشاركة النظام السوري في قتل شعبه من منطلق مذهبي بحت.
كان على العرب الشرفاء الذين يعرفون ما على المحكّ في الشرق الاوسط البدء من مكان ما وعدم الاكتفاء بالتفرّج على الإدارة الاميركية تتصرّف بالطريقة التي تتصرّف بها. اثبت العرب أنّهم يعرفون سلفاً النتائج التي يمكن أن تترتب على انتقال تجربة قطاع غزة حيث الامارة الطالبانية التي أقامتها حماس في مصر. أكثر من ذلك، أدرك العرب الشرفاء معنى انتشار فوضى السلاح في كلّ قطاع سيناء والسعي في الوقت ذاته الى تغيير طبيعة المؤسسات المصرية، أي مؤسسات الدولة العميقة في مصر، التي ورثها نظام العسكر عن النظام الملكي. وكان في طليعة هذه المؤسسات القضاء الذي بقي منحازاً للمواطن العادي على الرغم من كلّ الضغوط التي مورست على رجالاته.
من هذا المنطلق، كان الوقوف مع مصر أكثر من ضرورة. من وقف مع مصر منذ البداية من دون أخذ في الاعتبار للموقف الاميركي، إنما كان يدرك أن مصلحة دول المنطقة تعني أوّل ما تعني أخذ مسافة معيّنة من السياسة الاميركية التي لا يمكن إلا أن تلحق الضرر بمنظومة الامن الاقليمية عموماً. لا يمكن الاستخفاف بالموقف السعودي الذي عبّر عنه الامير سعود الفيصل وزير الخارجية، الذي امتنع عن إلقاء كلمة المملكة في دورة الجمعية العمومية للامم المتحدة. كان ذلك دليلاً على مدى الانزعاج العربي من سياسة اميركية لا تصب سوى في تعزيز القوى المتطرفة أكانت سنّية أو شيعية!
هناك دول عربية عدّة لم تتردد في دعم الثورة المصرية في توجّهها الهادف الى إعادة الحياة الى الموقع الطبيعي لمصر على الصعيد الاقليمي. الأهمّ من ذلك، أن قادة هذه الدول العربية لم يأبهوا للموقف الاميركي المتذبذب من هذه الثورة الشعبية.
ليس صدفة أن يكون وفد اماراتي أوّل من زار القاهرة بعد انتزاع مصر من براثن الاخوان المسلمين وإعادتها الى أهلها. وليس صدفة أن تكون مصر تلقت بعد ذلك مساعدات سعودية واماراتية وكويتية ودعماً واضحاً من الاردن. فقد كان الملك عبدالله الثاني أوّل رئيس دولة يزور القاهرة بعد الثورة. وليس صدفة أن الرئيس عدلي منصور اختار السعودية ثم الاردن في أوّل جولة خارجية منذ توليه الرئاسة موقتاً.
ما يشير اليه الدعم العربي لمصر أنه لم يعد في استطاعة هؤلاء العرب سوى الاتكال على انفسهم ما دام باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة. اليوم هناك دعم قوي لمصر يرافقه تحفّظ في غاية الوضوح عن السياسة الاميركية. متى دور لبنان الذي على تماس يومي مع الكارثة السورية والذي يعاني مثله مثل غيره من حال الضياع الاميركية؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.