27 نيسان 2020 | 09:50

صحافة بيروت

وعد الغراب بالخراب

وعد الغراب بالخراب

كتب مصطفى علوش في "الجمهورية": ‏

‏«ألا أيّها الظالم المستبد حبيب الظلام عدو الحياة سَخرت بأنّات شعب ضعيف وكفّك مخضوبة ‏من دماه ورحت تشوّه سحر الوجود وتبذر شوك الأسى في رباه»‏

أبو القاسم الشابي

لستُ من دعاة تقديس النصوص في كل آن وأوان، فما كان حقيقة مطلقة في يوم ما لا مجال ‏حتى لنقاشها، يأتي زمن لتصبح تلك الحقيقة فيه مجرد رواية مضحكة، يتندّر بها الناس. يعني، ‏كما يقول الفيلسوف مارتن هيدغر، انّ الحقائق العلمية بذاتها تبقى حقيقة في أوانها ومرجعية ‏صالحة منطقياً للناس، ليبنوا عليها أرضية أفكارهم. فعندما كانت الأرض مسطحة، والشمس ‏قرص يتنقل على عربة في السماء، لتختبئ وراء الجبال ليلاً، والخيمياء قاعدة علمية لتحويل ‏المعادن لذهب، وشرائع حمورابي قانوناً... كانت تلك حقائق مطلقة، لكن الأهم هو أنها تصبح ‏قاعدة فيها الكثير من القداسة، لأنها في طيّاتها تحمل الإحساس بالأمان لكونها مرجعية لاجتماع ‏البشر، في ما بينهم، ومع الطبيعة.‏

‏ الماضي يحمل دائماً دروساً نفهم من خلالها ما هو نافع لتفادي الخطأ، وما هو الطريق إلى هوة ‏الجحيم. العاقل يعرف كيف ينتقي من الماضي العبَر النافعة لتجنب المخاطر، لكنّ المصيبة هو أن ‏قلة من الناس يفهمون التاريخ، وإن فهموا فقد يعتقدون أنهم أكثر حنكة أو دهاء ممّن سبقوهم على ‏درب الخراب، فيعودوا بأنفسهم إلى تكرار كل ما أوصَل من قبلهم إلى الهاوية، لاعتقادهم بأنهم ‏فهموا. يقول أينشتاين انه من علامات الجنون تكرار مسار معيّن بتفاصيله وانتظار نتائج مغايرة!‏

لا بأس، فمن جديد احتجت لتلك المقدمة للدخول في لب الموضوع. والموضوع من جديد هو ‏دستور لبنان المعدّل في الطائف، بعد فشل الدستور السابق بتأمين الاستقرار الوطني، فأدخلنا في ‏حروب مستمرة منذ تأسيس بدعة الشراكة الوطنية بين زعماء ووجهاء الطوائف، الذين تحولوا ‏بين ليلة وضحاها من إقطاعيين إلى رجال دولة وسياسيين.‏

بكل موضوعية ووضوح، أنا لم أعتقد يوماً أنّ اتفاق الطائف، أو الدستور الذي نتج عنه، كان ‏العلاج المثالي لمرض الشعوب اللبنانية المتعايشة قسراً على أرض لبنان الضيقة، لكنه على الأقل ‏أوصَل الحرب الطويلة المدمرة الدامية إلى ختام، ولو على زغل، وأعطى فرصة، ولو مؤقتة، ‏للناس لكي يفكروا بكيفية العيش بشكل عادي، وإن لم نعد نعرف ما هو العيش العادي بالضبط. ‏وبالتالي، فإنّ الدستور الذي حاول أن يرسي توازنات جديدة في السلطة غير المتوازنة في ما ‏سبق، ليس نصاً مقدساً، وهو، مع أنه لم يطبّق بالكامل، وخصوصاً بتلك البنود المتعلقة بإلغاء ‏الطائفية السياسية، لكن ما على المحتجّين عليه، أو المتضررين منه، ألّا أن يذهبوا إلى الطريقة ‏الدستورية لتعديله، أي من خلال مجلس النواب، إلا إذا كان البعض من المغامرين الذين رفضوا ‏اتفاق الطائف من يومه، واحد لأنه لم يأت به رئيساً للجمهورية، وآخر لأنه أخّر حلم الولاية الذي ‏كان قاب قوسين، يريدون دفع البلاد إلى حرب جديدة!‏

لماذا هذا الكلام الآن؟ فقد صرّح رئيس التيار الوطني الحر السابق، وولي عهده، بأنّ تغيير اتفاق ‏الطائف سيكون بالممارسة. والواقع، فقد تراجع هؤلاء عن المطالبة بتعديله دستورياً، وذلك ‏لعلمهم أنّ التعديل سيفتح شهية الجميع على التعديل الذي يناسبهم. وبما أنّ موازين القوى هي ‏بوضوح تميل إلى من يملك السلاح في البلد، فإنّ أي تعديل سيكون محكوماً حتماً بما يريده ‏أصحاب السلاح، أي ليس لمصلحة من يَتوهّم أن التعديل سيعيد ماض لم يتمكن من إقناع أحد ‏بجودته. ‏

ماذا يعني إذا التعديل بالممارسة؟ لقد بدأت التجربة من خلال انتزاع رئاسة الجمهورية تحت ‏شعار الرئيس القوي، والفكرة هنا هي أنّ الشراكة بين الطوائف تكون بالقيادات التي تمثّل ‏طوائفها بشكل أكثري في المجلس النيابي. بالطبع، فإنّ هذا الطرح لا يؤدي بالمرة إلى حكم ‏سَوي، لأنه حسب التجربة ألغى فصل السلطات، وأصبح مجلس الوزراء صورة طبق الأصل ‏عن المجلس النيابي، وحَرم بالتالي البلد من وجود معارضة تراقب وتحاسب وتعدّ نفسها لطرح ‏مشروع بديل عند فشل الحكم.‏

لكن، عندما وصل رئيس الجمهورية تحت شعار هو اخترعه، حاولَ وضع رئاسة الحكومة تحت ‏عباءته، أي التعديل الموعود على الدستور من خلال الممارسة. ويجب الاعتراف أنّ هذا المخطط ‏نجح في بداياته، لدرجة جعلت من رئيس الحكومة في موضع الاحراج والاستهداف من قبل ‏مؤيّديه. ومن بعدها البقية معروفة بعد قرار الاستقالة، فقد تبيّن أنّ استيعاب قرار رئاسة الحكومة ‏لم يعد ممكناً مع سعد الحريري. من هنا كان القرار بالبحث، أو ربما كان الخيار جاهزاً، عن ‏رئيس لا حيثيّة ولا قرار ولا وقفة عِز عنده، جُلّ أحلامه أن يكون رئيساً ولو نظرياً، ليكون ‏السبيل لتعديل الطائف بالممارسة كما وعد الرئيس وولي عهده. وعد تغيير الطائف بهذا الأسلوب ‏هو وعد الغراب بالخراب!‏

هذا اللعب على حافة الهاوية اليوم، المبنيّ على لحظة ضعف تاريخية، لن يكون إلّا مقدمة ‏لانفجار كبير عندما تتغيّر الموازين فجأة. ومن يقرأ التاريخ، ويفهمه، يعرف كيف يتجنّب الوقوع ‏من جديد في الهاوية التي سبقه إليها آخرون.‏

الجمهورية ‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

27 نيسان 2020 09:50