منوعات

المصالحة للنهوض

تم النشر في 27 تشرين الأول 2025 | 00:00

#مازن_عبّود

نعيش في الماضي الذي يعتبره Benjamin (1940)، يقتحم حاضرنا في ازمنة الخطر، كخشبة خلاص. فالذاكرة ليست مجرّد استرجاعٍ للأحداث، بل فعلٌ ثوريّ يُنقذ المهزومين من غياهب النسيان. ماضينا قوّة حيّة لانّ حاضرنا عاجز عن إرضائنا. استرجعت شعوبنا ماضيها بعد فشل أنظمتها في تحقيق الغايات. هربت إلى الماضي. فصار واقعها لعنة تاريخ تسطر الواقع. الزمن عندنا لا يسير في خطٍّ مستقيم، بل في دوائرٍ عنف. نفعل في الماضي لكن داخل الحاضر، وما الحروب بين السنّة والشيعة اليوم مثلا، إلا تعبيرٌ عن ذلك.

ليس المطلوب قطيعةً مع التقليد، بل عودةٌ نقديّة للذاكرة، لا للتكرار، بل للبحث عن اتجاهٍ ومعنى، للتعلّم لا للاستعباد.

ترىArendt (1958, 1961) أنّ "الفكر يرتبط دائمًا بالتذكّر، فهو إعادة نظرٍ فيما هو غائب." التذكّر فعلٌ سياسيّ وأخلاقيّ يعيد للحاضر قدرته على الحكم والمعنى في زمنٍ تائه. استعادة الماضي إذا تصبح وسيلةً للمصالحة مع عالمٍ فقد بوصلته الأخلاقيّة، هذا ان تصالحنا مع ماضينا.

نفتقر إلى علاقةٍ فاعلة مع التاريخ. فتفسيره لتأكيد الحياة، كما كتب Nietzsche (1874)، ولتحويله الى مادّةً للتجدّد والخلق لا للتبجيل. «نسيان ما لا يلائم» ليس ضعفا، بل قوّة تحرّرنا وتفعّل الإبداع.

انّ الزمن، كما يرى Bergson (1896)، ديمومةٌ حيّة. فالماضي يتدفّق إلى الحاضر باستمرار، والذاكرة تعمل في الإدراك والفعل. الحرّية الحقيقية تقتضي أن نتحرّك داخل هذا الامتداد الزمني دون أن نصبح أسرى له.

يعتبرFoucault (1975) أنّ ماضينا متجسّد في مؤسّساتنا وخطاباتنا. لذا، فاستعادته ضروريّة لكشف المعايير و«الحقائق» الراهنة وكيفيّة تغيّرها. المصالحة النقديّة معه وليس القطيعة، تتيح الفهم والتحرّر. فالقطيعة، كما يقول Ricoeur (2000)، موت مرّتين: مرّة بالنسيان، ومرّة بفقدان المعنى.

علينا دمج الماضي أخلاقيًّا بحاضرنا، كما دعا Derrida (1993). فلا يبقى حاضرنا مسكونًا بأشباح وعود غير مُحقّقة، ومظالم قديمة، ومستقبل ضائع. الحضور الطيفيّ للماضي سيبقى قائمًا، لكن يجب ألّا يتحوّل إلى لعنةٍ تطاردنا. المطلوب علاقةٌ فاعلة مع التاريخ، فنستعمله لما ينفع، ففي فقدانه ضياع الهويّة.

علاقتنا الملتبسة به جعلتنا غارقين في أزمات تطرد الاستقرار والرغد. المطلوب تصويب هذه العلاقة...