أخبار لبنان

في وداع زياد...!

تم النشر في 29 تموز 2025 | 00:00

في وداع زياد الرحباني شعرت أنّ تاريخاً قد ووري، استحال رماداً بعدما «شرقط» إبداعاً، وحفر عميقاً في أرض الواقع، ليستخرج منها صورة واقعية لوطن متهالك سحقته «شعوبه» المتناحرة - المتنافرة التي تستظل علماً تعلّقت به بحكم العادة، وتلهج بنشيد ألفت كلماته واستكانت للحنه فحسب.

لم نكن «كلنا للوطن». زياد الرحباني صاغ من الوجع تاجاً للمهمّشين، ومن المعاناة صولجاناً للمعذبين، إختصرت حنجرته حناجرهم، فكان صرختهم، واجتمعت أناملهم في أنامله فعزف على مفاتيح «البيانو» مقطوعة الوطن المنكوب بأبنائه الذين أدركهم خدر «المعليشية» و«يصطفلو».

كان زياد «كافراً»، لكنه لم يكن كذلك لولا الجوع. وكان... كان ثائراً لا حباً بالثورة وسعياً وراءها، بل لأنّ كل شيء في لبنانه يدعو إلى الثورة. عمل في فنه على تحطيم صورة «لبنان الرحابنة» وصورة «لبنان سعيد عقل» الذي كان سنداً لمدرستهم، لا رفضاً لهذه الصورة، بل كان يرى نقيضها في يوميات اللبنانيين وسلوكياتهم. شيئيات المادة، وقشور الحداثة البعيدة من أصالة التراث دمّرت مسرح القرية، حقولها، أزقتها، وخطفت براءة الطفولة، وفورة الشباب، وعنفوان الرجال، ولم يتبق سوى الحلم. سخرية زياد من نموذج «الوطن الرحباني» لم يكن بدافع النفي والإنكار، إنما لبقائه وطناً هيولياً لا وجود له على أرض الواقع. هذا «الكافر» أعطى الكنيسة الحاناً تصل الأرض بالسماء، تمجّد عظمة الخالق بموسيقى علوية تحمل المستمع إلى دنى لا يحوطها خيال، ولا يدانيها جمال: «كيرياليسون»، «المجد لك أيها المسيح». هو مجد المسيح الذي قرأ على قسمات وجهه علامات الإنسان المستضعف، المعذب، المقهور، الذي يختلط دمه بعرقه، كما يختلط الدم والماء في تقديس القربان، خبز الحياة.

إنّ الغائص في أعماق شخصية زياد يتبين له أنّه كان وفياً لمبادئه وقناعاته ولم يبدّل تبديلاً، ولو تنوعت أساليب التعبير عنها في مسرحياته، ألحانه وأغانيه. لكنه كان كثير الوفاء لفيروز الأُم، فيروز الأُسطورة، فيروز الألم الساكت على ذكريات وجروح، المبحرة في الوجع الذي يتبركن في داخلها من دون أن تحني الرأس أو ترفع بيارق الاستسلام. «وحدن» فيروز وزياد غزلا من حرير الدمع «عباءة» الأمل المنتظر على قارعة رصيف لبنان المتعثر في زمن الانكسارات. مضى زياد بقرار منه... بملء وعيه خط السطر الأخير في كتاب الرحيل الآتي من نداءات روح تريد أن تتحرّر من كفنها الجسماني، لتنطلق بعيداً... وضع أصبعه في جروح كثيرة، تعبت هذه الإصبع ولم يتوقف النزف... برم بدنياه... ألقى عصاه وخلد إلى رقاد أراده أبدياً هذه المرّة.