رشيد درباس
دعوا الأطفال يأتون إلي
السيد المسيح
أرسل لي زميلي وصديقي النقيب شكيب قرطباوي نصًّا كتبه السيد كلود الخال فحواه ان الكاردينال: Metteo zuppi مطران بولونيا قد قرأ الأسماء الثلاثية لاثني عشر ألف طفل فلسطيني قتلهم الجيش الاسرائيلي، وذلك على مدى سبع ساعات كاملة، دون توقف. ولقد كان يتلو هذه الاسماء بالصوت العالي رغم بلوغه السبعين واحدًا تلو الآخر حتى لا يطوى أي من هؤلاء في نسيان الإنسانية المزعومة التي تحداها وتحدى معها القوة الغاشمة، والتواطؤ الدولي المخزي.
يضيف السيد الخال إن هذا الحَبْرَ العظيم كان يجسد المسيح الذي يقول دعوا الأطفال يأتون إلي.
لقد أنشئت دولة اسرائيل على أرض فلسطين بحجج كثيرة، أهمها أنها الدولة الديمقراطية الحديثة التي تدخل إلى بلاد البداوة والعشائر؛ وكان المؤسسون ينتمون إلى نخب أوروبية تراوحت بين أصحاب قفازات الحرير وحملة الحراب الباقرة البطون، وبين مخلفات الأممية الثانية وأحزابها " الاشتراكية" وعصابات "شتيرن" و"أرغون".
حظيت الدولة الجديدة برعاية واعتراف الدول العظمى، وسوَّقت لنفسها كنموذج للديمقراطية وتداول السلطات والاحتكام إلى النظام البرلماني. لا يمكن أن ننكر أن بعضًا من المؤسسين وخلفائهم، كانت لديهم نزعة تسووية مع الفلسطينين سرعان ما التهمتها شهية التطرف بعد أن تمكنت أحزاب اليمين مدعومة من أهل الخرافة التلمودية من جعل التسوية مستحلية، بل واعتماد الحرب المستدامة اساسًا لأمان دولة اسرائيل في محاولة لصد الهلع الديمغرافي وذلك بالتلويح بدنو تحقيق حلم اسرائيل الكبرى، وبالذهاب إلى عمليات الإبادة التجويع والتهجير. ربما يستطيع نتنياهو أن ينتفخ عجبًا ويقول إنه بصدد رسم خرائط الشرق الأوسط الجديد، بل إن الفلسطينيين اليوم يعانون ويكابدون ما فاق معاناتهم أيام النكبة، لكن كل ذلك لن يغير من أن فلسطين التي ظلمها المجتمع الدولي، قد عادت إلى ضميره بأحدِّ ما أنَّبَتْه المجازر النازية، كما أن الدولة التي أصبحت موضع ازدراء معظم الأمم والشعوب لا ينبغي لها أن تأمن لمستقبلها اعتمادًا على قوتها المفرطة وجبورتها المتوحش.
إن الكاردينال (ماتيو) لم يكن يتلو رقيمًا يترحم فيهعلى أرواح الشهداء الأطفال، بل كان يتلو مضبطة اتهام بوجه الدولة العبرية وبوجه كل من تواطأ أو سكت عن هذه المجزرة المتواصلة.
وكان البابا فرنسيس الأول قد أوصى من شرفة الفاتيكان في أيامه الأخيرة، بصوت متهدج باك: أن أوقفوا قتل الأطفال في غزة، وقد تلقف وصيته تلك، قداسة البابا لاون الرابع عشر، فأدان البريرية والعنف الأعمى وطالب بإنهاء هذه الإبادة بحق المدنيين والأطفال. وقد تعمد استعمال كلمة بربرية أيضًا بخصوص منع الأغذية عن مئات آلاف المحاصرين، ودعا أمم العالم للتعاون من أجل وقف هذه الفاجعة الإنسانية. منذ مدة روى لي الدكتور رضوان السيد أنه كان طالبًا للبابا بنديكتوس السادس عشر عندما كان أسقفًا لألمانيا. وقد سمعه يقول إنه يقدر للحركة البروتسنتانية دورها في انتقال الفاتيكان من دولة لها جيوشها وحروبها إلى واحدة من أعلى المرجعيات الأخلاقية في العالم. نحن نعيش الآن في الظرف المعقد، حيث يزدري الجبار بالأخلاق والقيم، فيما المدن والجامعات الأميركية والأوروبية تعلن انحيازها الكبير لمصلحة الشعب الفلسطيني والتعاطف مع مأساته.
يذكر لنا التاريخ أن كثيرًا من الجبابرة كانوا يلقون الطعام للخنازير ويمنعونه عن جوع الناس، كذلك يفعل الجيش الإسرائيلي الذي ينصب الحواجز النارية بين قِدْر الحساء ولعاب الجوعى
أنه ضرب مستعاد من احط مراحل التاريخ، بأن تجعل من حجب الطعام سلاحًا من أسحلة الإبادة أو الترحيل.
هذا هو الوضع في فلسطين التي يعجز مجلس الأمن عن إغاثتها بسبب حق النقض الذي يمارسه الشرطي الدولي الوحيد الذي لا يكف عن تعزيز القدرة الإسرائيلية.
لكن الوجدان العالمي الذي يعبر عن ألمه لم ينتقل بعد للتعبير عن إرادته تجاه حالة لم تشهد لها الإنسانية مثيلًا، يمارسها الجيش الإسرائيلي، ويعبر عنها وزير المالية مودريتش إذ يقول: "إما نبيدهم بالرصاص، او نبيدهم بالجوع والعطش".
إن الشرق الأوسط، الذي تتراواح أحواله بين مخاطر الاستيطان والترحيل والتمزيق، مازال يستعصي على إخراجه من دُوَلِهِ الوطنية إلى "اللادول" والإيالات والولايات، برعاية الوالي الجديد نتنياهو، الذي ما زال يُعَوِّل على الاستثمار في تحريض المذاهب والاتنيات بعضها على بعض، لأن سماسرة مثل تلك المشروعات المسمومة قد سقطت أوراقهم التي يبيعونها لِنّخَّاسي الشعوب، فالعرب ليسوا رقيقًا على أرصفة المصالح، وجنون التعصب وهلوسة الشعب المختار.
على هامش هذا، حاولت الدولة اللبنانية أن تتدارك الانزلاق إلى رمال ذلك المشروع الجهنمي، بأن أصدرت الحكومة قرارها الشجاع بجعل سيطرة الدولة على السلاح أمرًا سياسيًا مبتوتًا لمصلحة الشعب اللبناني كله، الذي ليس له من حماية إلا اللياذ بكنف الدولة التي لا تزال محط رعاية عربية ودولية ثمينة، فإذا خرجنا من تحت سقفها، أنكشف لبنان أمام العدوان الغاشم، والقنص اللئيم، والسم المبثوث بين المكونات والطوائف التي لا بد لها من أن تلتقي في رحاب العقد الجغرافي المقدس بين ذرى الثلج ولُجِ البحر، ومسرب الخصوبة إلى السهول وضفاف الأنهر التي تنشأ على أطرافها الحضارات. إن كل فئة تحاول ان تلوي عنق الجغرافيا او التاريخ سترتد إلى الحقيقة الأصلية وهي أن اللبنانيين أوعية بشرية مستطرقة، تتعادل فيها المستويات أيا كانت أشكال هذه الأوعية.
مازالت الفرصة متاحة قبل أن تبدأ عمليات التوزيع الجديد التي توشك بنا، لكي نبقى في دولة حقيقية بدلًا من الجلوس المذل الطويل في قاعة الضمير الإنساني.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.