رشيد درباس
ليت للبَّراق عينا
ليلى العفيفة
ليس خطاب رئيس الجمهورية عشية عيد الجيش في اليرزة موضوع نقاش يطول- كما جاء في إحدى الصحف- بل هو انتقال من الدلالة إلى الجزم، فلقد عاشت الحياة السياسية اللبنانية طويلًا ومريرًا في مناخ الالتباس، منذ مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، مرورًا بالثلاثية التي ترجح جنسها بين الذهب والخشب، وصولًا إلى خطاب القسم والبيان الوزاري، ونيل الثقة على اساسه.
كل فئة حددت سلوكها وفق تفسيرها الخاص للنصين، لكن حزب الله الذي قدم تنازلات في الصياغة ظل معتصمًا بالتأويل والأولويات والغموض الذي يمكن أن يُحَمِّل الكلام ما هو خارج عن معناه ومبناه. منذ اتفاق وفق النار دارت مطارحات لغوية وجهوية حول معنى جنوب الليطاني، في موقف ساذج لا يقدم ولا يؤخر تجاه تربص العدو الذي يستبيح الخطوط كلها والأنهار والأجواء، ويلاحق اهدافه بدقة كلية دون ان يحسب أي حساب لتصدِّ أو صمود أو اعتراض أو محاسبة دولية.
لقد كان الاتفاق الذي حظي بتوقيع حكومة الرئيس ميقاتي بالاجماع، نتيجة الاختلال الخطير بميزان القوى الذي أدى إلى تدمير الجنوب والضاحية والبقاع وإسالة أنهار دماء، واستشهاد الزعماء والقادة، فيما الالة العسكرية للمقاومة بذلت وسعها المحدود، إلى أن وجب عليها الركون لذلك الاتفاق بشروطه المجحفة؛ هو إذن ليس مرجعية علاقات مع اسرائيل بل هو امتداد حرُّ لأذرعها في الاتجاهات، وسراح مطلق للمسيرات التي تحتل أجواء بيروت والمناطق بوقاحتها وأزيزها المزعج، آمنة من أن ترمى إلا باللعنات. ربما تكون إسرائيل الآن راضية عن حملتها التي عطلت الآلة العسكرية للحزب إلى حد بعيد، وأفقدتها زمام المبادرة، ولكن هذا لا يعني القضاء الكلي على البنية العسكرية، لهذا تراهن، بالاستعانة بالولايات المتحدة على أن تندلع الفتنة الدخلية لتسقط الدولة في حرب أهلية جديدة، ربما تمكنها بعد ذلك من التحكم بلبنان كله، تمامًا كما تحاول فعله في سوريا بالمراهنة على اشتباك الطوائف.
خطاب رئيس الجمهورية ليس اقتراحًا يدور حوله الحوار العقيم، بل هو قرار حاسم يعبر عن توجه الدولة بمؤسساتها لاحتكار السلاح بأشكاله، لا سيما سلاح حزب الله الذي جرت تسميته بوضوح. لكن هذا القرار ينطوي في الوقت عينه على تنبيه قاطع بأن لبنان على شفير الدخول في دوامة أخطار لا قبل له بها، بما يُحَمِّل كل طرف مسؤولياته المحددة، وطنيًا واجتماعيًا عما يمكن ان يلحق بلبنان من خراب جديد.
إن هذه المقدمة تدعوني إلى تسجيل استنتاجات لا تخفى على بصير، منها:
إن خطاب رئيس الجمهورية ليس روزمانة عمل، وإجراءات ومواعيد، بل هو حقائق وضعها أمام الملأ من المنصة التي انطلق منها إلى رئاسة الجمهورية.
إن الدولة ليست وسيطًا بين المقاومة وإسرائيل التي تحتل أرضًا وطنية تعنى السلطات الرسمية بتحريرها، وبالتالي فإن الانضواء تحت سلطة الشرعية ليس مشروطًا بحسن نية العدو وانسحابه من الأراضي التي يحتلها، ذلك أن العدو، يعول بالأساس على اشتباك داخلي واسع يؤهله لمزيد من العبث في الشأن اللبناني.
إن الاختباء وراء الكلمات والصيغ والتفسيرات لم يعد يجدي لصد الاعتداءات اليومية، فلا سقف للجميع إلا منطق الدولة والاحتكام لها.
إن النبرة الجديدة التي تتحدث عن هواجس لدى الطائفة الشيعية بما يتربص بها جنوبًا وشمالًا وشرقًاً، وحتى في الداخل، هي نبرة يجب أن تخنق في مهدها وإلا يكون استدراج سرطاني للطوائف كلها للذهاب إلى التسلح، مع الملاحظة، أن ما كان متاحًا لحزب الله في السابق برًا وبحرًا وجوًا، قد يصبح متاحًا جدًا لبقية الطوائف، في حال أدركتها لعنة الخوف هذه، بما يوجب التأكيد على أن الدولة بقواها المسلحة وبناها الدستورية هي المؤهلة والجديرة بحماية المواطنين كلهم، أفراداً وجماعات.
إن الحزب قد احتكر المقاومة على مدى عقود، أفما يحق للدولة أخيرًا أن تحتكر السلطة منفردة، بعدما آلت الأمور إلى ما آلت إليه؟
من حق اللبناننين جميعًا، لاسيما بيئة المقاومة، ألا يستسلموا مجددًا لحسن توقع "الممانعة" السياسي، وحسن الاستعداد للمواجهة، بعد كل النتائج المدمرة التي حفلت بها المرحلة السابقة، بل أصبح من واجب القوى السياسية دون استثناء أن تذهب إلى الدولة التي عُلَّقت طويلًا على خشبة التجارب والمحاولات الفاشلة.
إن اسرائيل، بما تتمع به من قوة عسكرية وحماية أميركية، اختارت في هذه الفترة أن تديم حربها بالتقسيط اليومي، بحيث تنتقي أهدافها البشرية والعسكرية وفقًا للتكنولوجيا التي تملكها، بما يشكل استنزافًا باهظًا لنا، من غير أن تتكبد كلفة أو خطرًا.
إن اللبنانين مدعوون، وفق خطاب الرئيس، إلى الاصطفاف خلف سلطاتهم ومؤسساتهم، خاصة أن المنطقة تعيث بها الهمجية الاسرائيلية قتلًا وقضمًا وخرابًا، حيث تدفع فلسطين أبهظ الأثمان، ويباد أهلها بالتجويع والحصار والتهجير. لكن علينا أن نلاحظ هنا أن الرأي العام العالمي يتحرك بشكل غير مسبوق ويتداعى للأعتراف بدولة فلسطين، ويضرب حصارًا دبلوماسيًا على الكيان الصهيوني لم تشهده الأمم المتحدة من قبل. وعلى هذا، فإن لبنان مفتوحة أمامه الفرص للدخول إلى عباءة الشرعية الدولية والعربية، فلا نضيعنَّها باسم العناد والممانعة.
إن الحكومة التي تجتمع اليوم، قد تنجو من الفخ المنصوب لها وللدولة إذا تمتع وزراؤها بحس المسؤولية العالي، وإلا فإننا ذاهبون إلى تشرذم خطير يرفع رايات طوائفية، ويستدرج أنواع التدخلات الأجنبية.
إن "توماس براك" رغم أصله اللبناني ليس حَكَمًا بين لبنان واسرائيل، فهو يقول بملء الفم (عالجوا أشواككم بأيديكم ونحن لن نردع اسرائيل عن شيء)، فكفى بهذا لكي نسقط التعويل عليه، ونتوقف عن مناشدته على طريقة (ليلى العفيفة)
ليت للبراقِ عينا
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.