14 تموز 2022 | 10:51

أخبار لبنان

رسالة إلى بسام داية بحبر غير ملموس

رسالة إلى بسام داية بحبر غير ملموس

رشيد درباس



يوم الأحد مشت مسيرة خلف المسيرة...‏

تجمع المحامون بسوادهم والمحبون بحدادهم، والقادرون الفضلَ ‏بأعدادِهم، وسعَوا جميعًا إلى حيث يودعون ويعاينون كيف تتكفَّنُ البسمةُ ‏بالكتّانِ والتراب، حيث يرقد بسام داية، وسنرقد نحن أيضًا بعد أحيان أو ‏حين.‏

كلما قرأت عمري رأيت الغد ماضيًا مؤجَّلًا. لكنني لم أحسب أبدًا أن ‏غد بسام داية سيسرع هكذا، إلى الهجوع في ماضيه الثريِّ الذي لم يُتَمَّم بعد ‏بما يستحق، إلا إذا فهِمنا الغياب كمالًا مطلقًا، فيه استراح جسده من أدوائه، ‏وتحررت نفسه من معاناة الدورة الدموية، ومن خفقان القلب وتصلب ‏الشرايين وارتفاع السكري والضغط، ومن أثقال الحياة وصروفها، ومن ‏القلق المستدام الذي ربما تمادى إلى ما بعد إغماضه في ذلك الصباح من ‏الأضحى.‏

بسام مسيرة وضيئة الوجوه أيَّةً سلك، مذ كان طالبًا في كلية الحقوق ‏ومتعاقدًا مع وزارة الإعلام في الوقت عينه، ليخفف عن والده العصامي ‏بعض أعبائه. ثمَّ صار محاميًا متدرجًا، فأمسك بالزمام منذ همزةِ جوادِه ‏الأولى، من غير أن يشق له أحد غبارًا. ولقد نماني وإياه في التدرج موضعٌ ‏واحد هو مكتب الأستاذ رشيد فهمي كرامي الذي أخذنا عنه الكثير من العلم ‏والأدب. وحين استقلَّ بسامٌ عملًا لبث وَفِيًّا لمن تعلم معهم ومنهم، دقيقًا ‏مثابرًا يقاس الاحتراف على مقاسه، وسمْحًا لا يترك للخلاف مكانًا، يتقي ‏العاديات بالبشاشة والمرض بالصبر والخطر بالحنكة، حتى غدا منذ شبابه ‏محط ثقة الشهيد رشيد كرامي في أعقد الظروف وأشدها، ينتدبه إلى أصعب ‏المهام قائلًا:" أرسل حكيمًا ولا توصِهِ"، وفي كل مرة كانت الحكمة تفخر ‏به، كما الشجاعة الأدبية، فصار متمرِّسًا بالسياسة التي أخفقت في الإفادة ‏منه، لأنها رقطاء وهو مسالم. ‏

أحاول أن أتمالكَ روعَ قلمي وأجعلَه حذِرًا إلى أبعد حد، خشية أن ‏يُقحمني في كلِّ ما أقول في النقيب، لشدة تداخل أخوَّتنا وتشعُّبِها. إنها لا تبدأ ‏بالقضايا المهنية، ولا تنتهي بالأمور الشخصية والعائلية والاهتمامات ‏السياسية. ولعلّي في كل ما أكتب عنه شريكُ جمعٍ لا يُعَدُّ من الذين ارتبطوا ‏به صحبةً أو حاجةً، فاتكأوا على همته ونخوته وكرمه، لأنه المبادر من ‏غير طلب، بالتدخل الأنيس والوساطة اللطيفة والرأي الحازم، كأنَّ خيرًا ‏دائمًا معقودٌ عندوه بين رشاقة الأنامل وطلاوة الكلام.‏

جهر بهويته الوطنية في المحافل واليوميات، لكنه كان فريدًا من ‏نوعه في العبورِ بين الآراء والاتجاهات، فهو المحامي الحاذق الصارم في ‏قضية استشهاد الرئيس رشيد كرامي، وهو أيضًا المحاور بين الأطراف؛ ‏يدخل على المجالس دخول النسيم من الكوى الحارة، فيرطب جوًّا ويخمد ‏جمرًا، ويصدر أمرًا تتلقَّفُه الأسماعُ بالرِّضا والقبول. فلما صار نقيبًا بأكثرية ‏كبيرة، التفت إلى من لم يؤيده فأدخلهم في حميميته، وزاد النقابة مهابةً، ‏ووقف وقفته الشهيرة في قصر العدل ببيروت يوم افتتاح السنة القضائية ‏ملقيًا في حضرة رؤساء الجمهورية والمجلس والحكومةن والوزراء ‏والقضاة خطاب نقابة محامي طرابلس، الذي لو التقطت قاعة الخطوات ‏الضائعة أصداء معانيه، لما ضاع حق ولا مال عدل.‏

وكان طوال ولايته منصرفًا بالكلِّيَّةِ إلى تولي شؤوننا، ولهذا استودع ‏زملاءه وتلامذته الميامين أمور ملفاته، وتفرغ للإدارة فأحكم ضبطها، ‏ولمصالح المحامين رعاية وتعليماً، وابتكار فرص. وفي حقيبةٍ من استقامته ‏الشفافةِ حتى البلّورية، أرسل لبعض كليات الحقوق رسالة حازمة مفادها أن ‏النقابة لن تقبل في صفوفها من لم يتلقَّ علمًا رصينًا، وذلك بأن أعلن أن ‏نتائج امتحانات الدخول أسفرت عن نجاح أربعة أشخاص فقط من أصل ما ‏يزيد على مئتي متقدم للانتساب، فكان بهذا يعدل الميزان ويستنقذ تعليم ‏الحقوق من آثار حقبة معروفة. وعلى الرغم من قوة شكيمته وحزمه، أحاط ‏نفسه بالنقباء السابقين، واستمسك بالمشورة عاصمًا من الزلل، وفعَّلَ عمل ‏المجلس... لكن الإنصاف يقتضي أن ألفت إلى ما نجم عن حضوره ‏الشخصي الباذخ، من دور مرموق أدته نقابة طرابلس على صعيد لجنة ‏الإدارة والعدل، والمواقف المشتركة مع نقابة بيروت مع الصديقين النقيبين ‏أمل حداد ونهاد جبر، وكذلك في اتحاد المحامين العرب الذي استضاف ‏مكتبه الدائم في طرابلس، واستصدر منه قرارًا بانتخاب الزميل عمر زين ‏أولَ أمين عام لبناني لهذا الاتحاد. أما ما مارسه لدى الاتحاد الدولي ‏للمحامين، والعلاقة التي متنها مع نقابة باريس، والإسهام الكبير في إنشاء ‏وأعمال المحكمة الدولية الخاصة للبنان في قضية اغتيال الشهيد رفيق ‏الحريري، فبعض من علامات مقدرته، وامتداد حيويته الخلاقة في كل ‏موضوع، وكل مجال.‏

تواضعه المورث عن أبيه الذي تقمص سجاياه الغزيرة أمَّرَه على ‏تقاطع طرق كثيرة، ضمانًا للعبور الآمن؛ وكما كان عشير الداية -وحسبه ‏باسمه لقباً- مثالاً في الإدارة والصداقة والحصافة والبشاشة والعصامية، كان ‏بسام وإخوته جِبِلَّةً فائقة الرقي، رعتها أم فائقة الرقي أيضًاً وفائضة الحنان. ‏وكما اعتزَّ الوالد باسم "أبي بسام" ازدهى بسام بلقب "أبي عشير" فلما آثر ‏الرحيل أوى إلى صلاة عشيرة العمر"أم عشير" وابنتهما دامو وأخيه ‏الدكتور نبيل تبركًا بالكلام القدسي، واغتسالًا بنبع العاطفة المتدفق منهم.‏

قال الجواهري عن صديقه عمر فاخوري، حين زاره في أيامه ‏الأخيرة:‏

يُزَمُّ فمٌ، فما تُفْضي شِفاهٌ وَيْخفى السِرُّ لولا الـمُقلتانِ ‏

على مُؤَقَيْهِما مَرَحٌ ولُطْفٌ وإنْساناهُما بكَ مُتْعبانِ

تَفيضُ طَلاقةً وتذوبُ رِفْقًا ووحْدَكَ أنْتَ تدري ما تُعاني

أخي بسام...‏

أتُراك تدري ما نحن نعاني؟ أتُبْصِرُ الفرحَ الذي أخذتَه منّا معك؟ ‏ووالله، لئن قَصَّرت عن الارتقاء إلى عتبة الجواهري، فإنني مقصر أيضاً ‏عن الإحاطة بفسيح عتباتك. وكيف لي أن أتقي ذلك، والجوهر لا يحتاج إلى ‏قلادة لأنَّ بريقه دالٌّ عليه؟ لم يبقَ لي إذًا إلا أن أكتب بحبر غير ملموس هذه ‏النجوى، التي حاولت أن أجنب سطورها تفشي الدمع في الحروف، ‏لأرسلها على زاجل من حزني، ببريد ممهور بختم الوصول، يفيد بأن ‏المستلم قرأها وابتسم، كما كانت عادته، لأنه فريد بين المتألمين يعبر عن ‏أوجاعه بالابتسامة لا بالآه...‏

فآهٍ يا بسام ... آهٍ... ثمَّ آهْ!!!‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

14 تموز 2022 10:51