15 تشرين الثاني 2021 | 13:04

أخبار لبنان

دولة القانون- تحديات وآمال... محاضرة لدرباس في الجامعة العربية

ألقى الوزير السابق رشيد درباس محاضرة بعنوان دولة القانون- تحديات وآمال، جاء فيها: ‏

‏"لجامعة بيروت العربية عليَّ حقٌّ وإمرة، ولهذه القاعة ولاسْمهافي ‏نفسي ذكريات حميمة، فلقد ‏تعلمت الحقوق من المنهل المصري، وما ‏زال النيل يشق مجراه في وجداني.‏

كما أن مؤسسة كونراد أديناورالمحترمة ذات فضل في نشاطها ‏وعطاءاتها، وذات دأب على ‏الإسهام في تعميم ثقافة دولة القانون.‏

‏ ولقد تلطف صاحبا الدعوة برصفي بين نخبة راقية من المتحدثين، ‏وأنا لست من أهل التَّفقُّه، ولا ‏أدعي الأستاذية ولا أزعمها لنفسي، ‏فلست سوى محام ممارس، تلقن العلم على أيدي أساطين ‏القانون، ‏فحاول أن يستثمر هذا بإتقان عمله.‏

وتجدر الملاحظة أنني تعلمت في القاهرة ما هو أكثر من الدراسة إذ ‏انفتحت آفاقي المعرفية على ‏أرقى الإنتاج الفني والثقافي. فلقد عشت ‏في عصر طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ‏ويوسف ادريس ‏ولويس عوض، وشاهدت أم كلثوم على مسرح الأزبكية، وشغفت ‏بالمسرح ‏وبموسيقا عبد الوهاب، وتملك جوارحي ترجيع الكروان ‏كلما فرَّ من غصن إلى غصن، فشعرت ‏أن شهادة الحقوق الممهورة ‏بتوقيع العميد جابر جاد عبد الرحمن، تحمل أيضاً ختم النيل، ‏وسعف ‏النخيل وهرم الجيزة وروح الشعب المصري؛ فلما تجلببت الأسود، ‏ووقفت أمام الأقواس ‏ورفعت عقيرتي مرافعًا، وسننت ريشتي ‏مدافعًا، تفرَّعَت التُّرعُ في الكلام والصفحات، فأيقنت أن ‏القانون لا ‏يقف عند تعريفهالمجرد أي مجموعة القواعد الإلزامية التي تنظم ‏أمور الأفراد في ‏المجتمع ومصانة بالقصاص العام،بل هو تجليات ‏القانون الإلهي وحركة الطبيعة، وحاجة النفوس ‏الأزلية أن تنام ‏قريرة على وسادة العدالة؛ فقبل دولة القانون، هناك فلك القانون: "لا ‏الشمس ‏ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار وكلٌّ في ‏فلك يسبحون". وبعد هذا فإن الحياة ‏منضبطة بالقوانين التي لم تدون ‏في نص ولم تخضع لأعمال تحضيرية وأسباب موجبة ‏وسلطة ‏تشريعية، فالبحر بعظمته مرهون لقوانين المد والجزر والتسخين ‏والتبريد،وهبوب الأنواء ‏وهدوئها، والجسم منضبط بقانون الدورتين ‏الدمويتين، وإيقاع القلب، وأوامر المادة الرمادية ‏الصادرة عن المخ ‏والمخيخ.‏

وإذا كانت التجمعات البدائية قد عاشت في عشوائية الفوضى، فإن ‏انضباط الكون أملى على ‏الأجيال والحقب سن القوانين، وإقامة ‏الدول كلها على معاييرها المستمدة من المعايير الإنسانية، ‏لأن ‏القانون ودولة القانون، والتقيد بالقانون، أبرز معالم الحضارة ‏والرقي....‏

ما كان لي، قبل الدخول إلى إلى الموضوع أن أسترسل في هذه ‏المقدمة الطويلة، لولا أن ‏الظروف التي يعيشها القانون في دولة ‏لبنان تستدعي الرجوع إلى التذكير بالأصل، والتأكيد على ‏أن دولة ‏القانون حاجة فردية لكل مواطن توازي حاجته للماء والطعام، وأنها ‏لسيت خيارًا بل هي ‏واجبة الوجود كما يقول الفلاسفة، وكل عبث ‏بقواعدها، ونظامها، هو فعل قتل متعمد تنطبق ‏عليه أحكام المادة ‏‏549 من قانون العقوبات. ‏

فاسمحوا لي إذن أن أعيد تقديم نفسي كمحام ممارس على مدى نصف ‏قرن ونصف عقد، فأقول ‏بملء الفم، وملء القلب، وملء الخبرة، ‏وبأعلى نسبة من الحَيْدة:‏

لا ... ليست هذه دولة القانون، ولا هذه هي المحاكم التي عرفتها، ولا ‏القضاء الذي تساقط شعر ‏رأسي في حضرته وتجعد وجهي في كنفه، ‏وتهدج صوتي في قاعاته.‏

وقبل أن أستطرد، أستدرك وأقول إن القضاء، حتى لوكان متمتعًا ‏بأعلى استقلاليته،إنْ هو إلا ‏عضوٌ في جسم الدولة، ولعله بمنزلة ‏القلب، فإذا تفشت الأمراض في الأمعاء والكلى وجهاز ‏التنفس ‏وسواها، وبقي القلب نابضاً ، فذاك فعل مقاومة له مداه المحدود، ‏وبهذا المعنى، فإن ‏صمود العدالة فترة طويلة أثناء النزاعات ‏العسكرية والاحتلالات الأجنبية، لا يعني أنها كانت ‏بمنأى عن ‏التصدع، وها نحن الآن، نشهد تساقط أحجار الحصن، وانفتاح ‏الثغرات في جدرانه، ‏واستباحة الدخلاء لحرمه في ظل ازدواجية ‏سلطة أكاد أقول إنها العلة الأولى التي فتكت بالدولة ‏ولا تزال، فيما ‏يتعاطى معها أهل السياسة بالتغافل والتعامي، ومحاولة التعايش، ‏ولكن المستتر ‏أصبح ظاهراً، والظاهر لا تنستر له عورة، ولقد وقع ‏في نفوس الناس أن للمحاكم خطوطاً ‏عكسرية يسلكها أصحاب ‏الحظوة،وأن دونها مناطق محرمة إن اقتربت منها احترقت أو ‏انقبعت، ‏ورغم هذا فإنني لا ألتمس الأعذار للسلطة القضائية التي ‏تتناقص نسبة الأوكسجين في رئتيها ‏بفعل وطأة السياسة الجهلاء، ‏ولكنني أجري توصيفاً، وأتوجه باللوم لجهتين، الأولى هي ‏الدولة ‏التي في أيام (شبه صحتها) شيدت الجسور وعبدت الطرقات وصانت ‏بعض المرافق، ‏أغفلت صيانة المرفق القضائي والعمل على تطويره ‏وتسييجه من أعدائه الأزليين، والجهة الثانية ‏هو الجسم القضائي، ‏بمؤسساته الإدارية ومحاكمه وأفراده، إذ لم تكن لديه مقاومةكافية ‏تصد ذلك ‏التغول، خاصة وأن ثقافة ملتبسة المصدر تفاقمت آثارها، ‏تقوم على السعي للمراكز الهامة، التي ‏من سماتها أن يكون للقاضي ‏مرافقون عسكريون، وأن تكون لهم سلطة التوقيف وإصدار ‏الأوامر، ‏وهكذا تبقى لغير الهامّ المحاكم المدنية بملفاتها الثقيلة وأكوام ‏أوراقها، ومحاضر جلساتها ‏المليئة بقرارات فتح المحاكمة، وإرجاء ‏الجلسات من سنة إلى أخرى..‏

أيها المنتدون الكرام...‏

في مثل هذا الأسبوع من شهر نوفمبر تشرين الثاني من العام ‏‏2008، دعاني صاحبا المعالي ‏الوزيران البروفسور ابراهيم نجار، ‏وكان يومها وزيراً للعدل، والبروفسور الرئيس جوزيف ‏شاوول وهو ‏وزير عدل سابق، للاشتراك في طاولة مستديرة عقدت في بيت ‏المحامي، بإدارة ‏منظمةO.I.D.D.organisation internationale de ‎droit et du developpemnet، ‏بعنوان ‏les problémes de la ‎justice au liban، ‏‎(‎مشا كل العدالة في لبنان).‏

فقدمت مداخلة، عدت إليها أثناء إعدادي لهذه الورقة، وتذكرت أنني ‏أودعتها لدى عدة وزراء ‏عدل لاحقين، وتبين لي أن ما اقترحته لو ‏وضع موضع التنفيذ، بعضه أو كله، أثناء الفترة ‏المنقضية لكان ذاك ‏لقاحًا ناجعًا للمناعة، يحتاج بين الحين والآخر إلى جرعات تذكير.‏

فكرتي كانت تقوم على الآتي:‏

باستطاعة وزارة العدل أن تطلق ورشة تحديث البنى القضائية ‏التحتية وإخراجها من خيوط ‏الإهمال العنكبوتية إلى الشبكة ‏العنكبوتية الإلكترونية على حد ما قاله نقيب محامي طرابلس ‏لمعالي ‏وزير العدل في احتفال مئوية النقابة، ولقد لحظت أن مقترحاتي، ‏يتطلب بعضها تدخلاً ‏تشريعياً بسيطاً، كان يمكن ان يمر في مجلس ‏النواب بسهولة كلية، ولحظت أيضاً ان كلفة تلك ‏الورشة تكاد تكون ‏لا تذكر خاصة أن وزارة العدل لا تستهلك موازنتها سوى جزء يسير ‏مما ‏تدخله إلى الخزينة من رسوم، بالإضافة إلى برامج التعاون ‏الأوربية التي كانت على أتم استعداد ‏للتعاون والإسهام في مشاريع ‏التطوير القضائي.‏

وكان منطلقي أنعلة البطء بالفصل في الدعاوى يحتاج إلى رفد الجسم ‏القضائي بعدد من المحامين ‏الذين يجب أن يخضعوا لاختبارات ‏صارمة.‏

بعد هذا لا بد من رفد التفتيش بمزيد من القضاة، وباعتماد دوام كامل ‏لمفتش واحد على الأقل في ‏كل محافظة، لأن تفعيل التفتيش ‏وحيويته، وخروجه من سباته هو أول الرقابة وأقربها إلى ‏تلافي ‏الخلل.‏

لا بد من تدخل تشريعي يضع موعداً محدداً ومعلوماً لفصل الدعاوى ‏تحت طائلة المسؤولية ‏والمحاسبة، كما يجب إلغاء الجلسات المدنية ‏بصورة قطعية وجازمة، إلاللاستجواب وسماع ‏الشهود والمرافعات، ‏والاكتفاء خلا ذلك بتبادل اللوائح من ضمن المهل القانونية.‏

إن مظالم التطويل في الجلسات الجزائية يمكن تلافيها بالاستعاضة ‏عن التدوين العثملي بالتقنيات ‏الحديثة كالاختزال والتسجيل السمعي ‏البصري، وفي هذا اختصار للوقت والتزام بالدقة.‏

ومن وسائل القضاء على المماطلة اعتماد التوقيع الإلكتروني ‏والتبليغ الإلكتروني وتفعيل القانون ‏‏81/2018 بإصدار مراسيمه ‏اللازمة.‏

‏ واقترحت فيما اقترحت ألا يقبل معهد الدروس القضائية إلا من ‏مارس المحاماة مدة سنتين على ‏الأقل، لِيُلَوِّحَ علمَه بلهب التجربة ‏والنضج، وأضفت أن مواد التدريس لا ينبغي لَّها أن تقتصر ‏على ‏التعمق في علم القانون، فذاك العلم بحر لا تدرك شطوطه إلا لمن ‏خاض غمره والنوتي ‏الحصيف لا يكتفي بمعرفة نشر الشراع وطيه ‏أو إدارة المحرك وإطفائه، بل عليه أن يكون عارفًا ‏بما تقوله النجوم، ‏وما تضمره الريح، وما يبيته الموج؛ ولهذا فإن قاضياً يعتلي قوسه ‏بجدارةٍ هو ‏الذي تشبع بالفلسفة، وخاض في التاريخ وألمَّ بعلم النفس، ‏وتذوق الموسيقا، وحفظ الشعر، وجعل ‏الثقافة ملهمًا ودليلاً إلى ‏الأحكام العادلة.‏

واستكمالاً للفكرة، اقترحت إنشاء معهد للمساعدين القضائيين يستقبل ‏في صفوفه حملة الإجازات ‏والمهندسين وخبراء الخطوط والمساحة ‏وما إلى ذلك من أشخاص تشكل أعمالهم، أساس التحقيق ‏والأحكام.‏

ولم يفتني أن أقترح أن يخصص سنويًّا مبلغ من المال لمصلحة ‏صندوق قضائي له إدارته ‏المستقله يسد غوائل تقلبات العملة، ويصد ‏عن القضاة حاجتهم لالتماس دخول إضافية بالتدريس ‏أو سواه، ‏ويحفزهم على البقاء بدل السعي للاغتراب إلى بلاد تقدر قيمتهم، كما ‏حدت مع رؤساء ‏متقاعدين أجلّاء أدَّوا دورًا كبيرًا في بنية العدالة في ‏دول الخليج.‏

وإنني أودع هذه الندوة نسخة عن ورقتي تلك، وهي مكتوبة ‏بالفرنسية.‏

أيها العزاء،

أطلت عليكم، ويتراءى لي أنني كنت أنتقل بكم من برزخ إلى برزخ ‏من غير هوادة، وما يشفع لي ‏ألمي العميق وزيغ الباصرة، واختلال ‏الحركة في حقل من المغناطيس، لكنني ما زلت أؤمن بما ‏قاله الإمام ‏علي، إن القاضي لا يزدهيه إطراء ولا يغويه إغراء، فحذار من ‏النجومية القتالة، ‏والاستماع إلى الهتافات، وحذار من الشاشات ‏الزاعمات أنها أقواس محاكم، وحذار حذار من ‏ديكتاتورية العواطف ‏وديمقراطية الحشود، ذلكم أن القاضي نجم لا يرى نوره إلا في ‏عدله، وهو ‏متوارٍ شخصًا ظاهرٌ أثرًا، وهو شريك الرهبان والنساك ‏في صفاتهم، بل يفوقهم قدرًا، لأن أعلى ‏درجات العبادة أن تنفع ‏الناس، وحيث تكون مصالح البشر، ثمة شرع الله.‏

السيدات والسادة،

تهتكت الدولة وازدوجت سلطاتها، فأصيبت العدالة بكدمات خطيرة، ‏ولكنها ذات تراث، وذات ‏مراس، وهي معصوبة العينين، لا تتعصب ‏ولا تعتصب، والقاضي مستقل بذاته لا بعزوته، وهو ‏لا يدعو ناديه، ‏حتى لا تدعى الزبانية".‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

15 تشرين الثاني 2021 13:04