ألقى الوزير السابق رشيد درباس محاضرة بعنوان دولة القانون- تحديات وآمال، جاء فيها:
"لجامعة بيروت العربية عليَّ حقٌّ وإمرة، ولهذه القاعة ولاسْمهافي نفسي ذكريات حميمة، فلقد تعلمت الحقوق من المنهل المصري، وما زال النيل يشق مجراه في وجداني.
كما أن مؤسسة كونراد أديناورالمحترمة ذات فضل في نشاطها وعطاءاتها، وذات دأب على الإسهام في تعميم ثقافة دولة القانون.
ولقد تلطف صاحبا الدعوة برصفي بين نخبة راقية من المتحدثين، وأنا لست من أهل التَّفقُّه، ولا أدعي الأستاذية ولا أزعمها لنفسي، فلست سوى محام ممارس، تلقن العلم على أيدي أساطين القانون، فحاول أن يستثمر هذا بإتقان عمله.
وتجدر الملاحظة أنني تعلمت في القاهرة ما هو أكثر من الدراسة إذ انفتحت آفاقي المعرفية على أرقى الإنتاج الفني والثقافي. فلقد عشت في عصر طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف ادريس ولويس عوض، وشاهدت أم كلثوم على مسرح الأزبكية، وشغفت بالمسرح وبموسيقا عبد الوهاب، وتملك جوارحي ترجيع الكروان كلما فرَّ من غصن إلى غصن، فشعرت أن شهادة الحقوق الممهورة بتوقيع العميد جابر جاد عبد الرحمن، تحمل أيضاً ختم النيل، وسعف النخيل وهرم الجيزة وروح الشعب المصري؛ فلما تجلببت الأسود، ووقفت أمام الأقواس ورفعت عقيرتي مرافعًا، وسننت ريشتي مدافعًا، تفرَّعَت التُّرعُ في الكلام والصفحات، فأيقنت أن القانون لا يقف عند تعريفهالمجرد أي مجموعة القواعد الإلزامية التي تنظم أمور الأفراد في المجتمع ومصانة بالقصاص العام،بل هو تجليات القانون الإلهي وحركة الطبيعة، وحاجة النفوس الأزلية أن تنام قريرة على وسادة العدالة؛ فقبل دولة القانون، هناك فلك القانون: "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار وكلٌّ في فلك يسبحون". وبعد هذا فإن الحياة منضبطة بالقوانين التي لم تدون في نص ولم تخضع لأعمال تحضيرية وأسباب موجبة وسلطة تشريعية، فالبحر بعظمته مرهون لقوانين المد والجزر والتسخين والتبريد،وهبوب الأنواء وهدوئها، والجسم منضبط بقانون الدورتين الدمويتين، وإيقاع القلب، وأوامر المادة الرمادية الصادرة عن المخ والمخيخ.
وإذا كانت التجمعات البدائية قد عاشت في عشوائية الفوضى، فإن انضباط الكون أملى على الأجيال والحقب سن القوانين، وإقامة الدول كلها على معاييرها المستمدة من المعايير الإنسانية، لأن القانون ودولة القانون، والتقيد بالقانون، أبرز معالم الحضارة والرقي....
ما كان لي، قبل الدخول إلى إلى الموضوع أن أسترسل في هذه المقدمة الطويلة، لولا أن الظروف التي يعيشها القانون في دولة لبنان تستدعي الرجوع إلى التذكير بالأصل، والتأكيد على أن دولة القانون حاجة فردية لكل مواطن توازي حاجته للماء والطعام، وأنها لسيت خيارًا بل هي واجبة الوجود كما يقول الفلاسفة، وكل عبث بقواعدها، ونظامها، هو فعل قتل متعمد تنطبق عليه أحكام المادة 549 من قانون العقوبات.
فاسمحوا لي إذن أن أعيد تقديم نفسي كمحام ممارس على مدى نصف قرن ونصف عقد، فأقول بملء الفم، وملء القلب، وملء الخبرة، وبأعلى نسبة من الحَيْدة:
لا ... ليست هذه دولة القانون، ولا هذه هي المحاكم التي عرفتها، ولا القضاء الذي تساقط شعر رأسي في حضرته وتجعد وجهي في كنفه، وتهدج صوتي في قاعاته.
وقبل أن أستطرد، أستدرك وأقول إن القضاء، حتى لوكان متمتعًا بأعلى استقلاليته،إنْ هو إلا عضوٌ في جسم الدولة، ولعله بمنزلة القلب، فإذا تفشت الأمراض في الأمعاء والكلى وجهاز التنفس وسواها، وبقي القلب نابضاً ، فذاك فعل مقاومة له مداه المحدود، وبهذا المعنى، فإن صمود العدالة فترة طويلة أثناء النزاعات العسكرية والاحتلالات الأجنبية، لا يعني أنها كانت بمنأى عن التصدع، وها نحن الآن، نشهد تساقط أحجار الحصن، وانفتاح الثغرات في جدرانه، واستباحة الدخلاء لحرمه في ظل ازدواجية سلطة أكاد أقول إنها العلة الأولى التي فتكت بالدولة ولا تزال، فيما يتعاطى معها أهل السياسة بالتغافل والتعامي، ومحاولة التعايش، ولكن المستتر أصبح ظاهراً، والظاهر لا تنستر له عورة، ولقد وقع في نفوس الناس أن للمحاكم خطوطاً عكسرية يسلكها أصحاب الحظوة،وأن دونها مناطق محرمة إن اقتربت منها احترقت أو انقبعت، ورغم هذا فإنني لا ألتمس الأعذار للسلطة القضائية التي تتناقص نسبة الأوكسجين في رئتيها بفعل وطأة السياسة الجهلاء، ولكنني أجري توصيفاً، وأتوجه باللوم لجهتين، الأولى هي الدولة التي في أيام (شبه صحتها) شيدت الجسور وعبدت الطرقات وصانت بعض المرافق، أغفلت صيانة المرفق القضائي والعمل على تطويره وتسييجه من أعدائه الأزليين، والجهة الثانية هو الجسم القضائي، بمؤسساته الإدارية ومحاكمه وأفراده، إذ لم تكن لديه مقاومةكافية تصد ذلك التغول، خاصة وأن ثقافة ملتبسة المصدر تفاقمت آثارها، تقوم على السعي للمراكز الهامة، التي من سماتها أن يكون للقاضي مرافقون عسكريون، وأن تكون لهم سلطة التوقيف وإصدار الأوامر، وهكذا تبقى لغير الهامّ المحاكم المدنية بملفاتها الثقيلة وأكوام أوراقها، ومحاضر جلساتها المليئة بقرارات فتح المحاكمة، وإرجاء الجلسات من سنة إلى أخرى..
أيها المنتدون الكرام...
في مثل هذا الأسبوع من شهر نوفمبر تشرين الثاني من العام 2008، دعاني صاحبا المعالي الوزيران البروفسور ابراهيم نجار، وكان يومها وزيراً للعدل، والبروفسور الرئيس جوزيف شاوول وهو وزير عدل سابق، للاشتراك في طاولة مستديرة عقدت في بيت المحامي، بإدارة منظمةO.I.D.D.organisation internationale de droit et du developpemnet، بعنوان les problémes de la justice au liban، (مشا كل العدالة في لبنان).
فقدمت مداخلة، عدت إليها أثناء إعدادي لهذه الورقة، وتذكرت أنني أودعتها لدى عدة وزراء عدل لاحقين، وتبين لي أن ما اقترحته لو وضع موضع التنفيذ، بعضه أو كله، أثناء الفترة المنقضية لكان ذاك لقاحًا ناجعًا للمناعة، يحتاج بين الحين والآخر إلى جرعات تذكير.
فكرتي كانت تقوم على الآتي:
باستطاعة وزارة العدل أن تطلق ورشة تحديث البنى القضائية التحتية وإخراجها من خيوط الإهمال العنكبوتية إلى الشبكة العنكبوتية الإلكترونية على حد ما قاله نقيب محامي طرابلس لمعالي وزير العدل في احتفال مئوية النقابة، ولقد لحظت أن مقترحاتي، يتطلب بعضها تدخلاً تشريعياً بسيطاً، كان يمكن ان يمر في مجلس النواب بسهولة كلية، ولحظت أيضاً ان كلفة تلك الورشة تكاد تكون لا تذكر خاصة أن وزارة العدل لا تستهلك موازنتها سوى جزء يسير مما تدخله إلى الخزينة من رسوم، بالإضافة إلى برامج التعاون الأوربية التي كانت على أتم استعداد للتعاون والإسهام في مشاريع التطوير القضائي.
وكان منطلقي أنعلة البطء بالفصل في الدعاوى يحتاج إلى رفد الجسم القضائي بعدد من المحامين الذين يجب أن يخضعوا لاختبارات صارمة.
بعد هذا لا بد من رفد التفتيش بمزيد من القضاة، وباعتماد دوام كامل لمفتش واحد على الأقل في كل محافظة، لأن تفعيل التفتيش وحيويته، وخروجه من سباته هو أول الرقابة وأقربها إلى تلافي الخلل.
لا بد من تدخل تشريعي يضع موعداً محدداً ومعلوماً لفصل الدعاوى تحت طائلة المسؤولية والمحاسبة، كما يجب إلغاء الجلسات المدنية بصورة قطعية وجازمة، إلاللاستجواب وسماع الشهود والمرافعات، والاكتفاء خلا ذلك بتبادل اللوائح من ضمن المهل القانونية.
إن مظالم التطويل في الجلسات الجزائية يمكن تلافيها بالاستعاضة عن التدوين العثملي بالتقنيات الحديثة كالاختزال والتسجيل السمعي البصري، وفي هذا اختصار للوقت والتزام بالدقة.
ومن وسائل القضاء على المماطلة اعتماد التوقيع الإلكتروني والتبليغ الإلكتروني وتفعيل القانون 81/2018 بإصدار مراسيمه اللازمة.
واقترحت فيما اقترحت ألا يقبل معهد الدروس القضائية إلا من مارس المحاماة مدة سنتين على الأقل، لِيُلَوِّحَ علمَه بلهب التجربة والنضج، وأضفت أن مواد التدريس لا ينبغي لَّها أن تقتصر على التعمق في علم القانون، فذاك العلم بحر لا تدرك شطوطه إلا لمن خاض غمره والنوتي الحصيف لا يكتفي بمعرفة نشر الشراع وطيه أو إدارة المحرك وإطفائه، بل عليه أن يكون عارفًا بما تقوله النجوم، وما تضمره الريح، وما يبيته الموج؛ ولهذا فإن قاضياً يعتلي قوسه بجدارةٍ هو الذي تشبع بالفلسفة، وخاض في التاريخ وألمَّ بعلم النفس، وتذوق الموسيقا، وحفظ الشعر، وجعل الثقافة ملهمًا ودليلاً إلى الأحكام العادلة.
واستكمالاً للفكرة، اقترحت إنشاء معهد للمساعدين القضائيين يستقبل في صفوفه حملة الإجازات والمهندسين وخبراء الخطوط والمساحة وما إلى ذلك من أشخاص تشكل أعمالهم، أساس التحقيق والأحكام.
ولم يفتني أن أقترح أن يخصص سنويًّا مبلغ من المال لمصلحة صندوق قضائي له إدارته المستقله يسد غوائل تقلبات العملة، ويصد عن القضاة حاجتهم لالتماس دخول إضافية بالتدريس أو سواه، ويحفزهم على البقاء بدل السعي للاغتراب إلى بلاد تقدر قيمتهم، كما حدت مع رؤساء متقاعدين أجلّاء أدَّوا دورًا كبيرًا في بنية العدالة في دول الخليج.
وإنني أودع هذه الندوة نسخة عن ورقتي تلك، وهي مكتوبة بالفرنسية.
أيها العزاء،
أطلت عليكم، ويتراءى لي أنني كنت أنتقل بكم من برزخ إلى برزخ من غير هوادة، وما يشفع لي ألمي العميق وزيغ الباصرة، واختلال الحركة في حقل من المغناطيس، لكنني ما زلت أؤمن بما قاله الإمام علي، إن القاضي لا يزدهيه إطراء ولا يغويه إغراء، فحذار من النجومية القتالة، والاستماع إلى الهتافات، وحذار من الشاشات الزاعمات أنها أقواس محاكم، وحذار حذار من ديكتاتورية العواطف وديمقراطية الحشود، ذلكم أن القاضي نجم لا يرى نوره إلا في عدله، وهو متوارٍ شخصًا ظاهرٌ أثرًا، وهو شريك الرهبان والنساك في صفاتهم، بل يفوقهم قدرًا، لأن أعلى درجات العبادة أن تنفع الناس، وحيث تكون مصالح البشر، ثمة شرع الله.
السيدات والسادة،
تهتكت الدولة وازدوجت سلطاتها، فأصيبت العدالة بكدمات خطيرة، ولكنها ذات تراث، وذات مراس، وهي معصوبة العينين، لا تتعصب ولا تعتصب، والقاضي مستقل بذاته لا بعزوته، وهو لا يدعو ناديه، حتى لا تدعى الزبانية".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.