31 آب 2020 | 07:52

أخبار لبنان

ماكرون وفيروز وآخر الخواتم

ماكرون وفيروز وآخر الخواتم

غسان شربل - رئيس تحرير «الشرق الأوسط» ‏

‏ ‏

جميلٌ أنْ يدخلَ إيمانويل ماكرون لبنان في زيارته الجديدة من منزل فيروز. دخله قبل أسابيع من ‏الأحياء المنكوبة وميناء العاصمة المدمر. ولعلَّ الرئيس الفرنسي أراد تذكير اللبنانيين بالجسر ‏الأخير الذي عاند العواصف وهو جسر فيروز. لم يبقَ الكثير مما يجمع بين اللبنانيين. ضاعفت ‏السنوات الأخيرة تظهير التباعد بين الينابيع التي يشربون منها والقواميس التي يحتكمون إلى ‏مفرداتها. يختلفون في قراءة الداخل وأفخاخه وفي قراءة الخارج وتحولاته.‏

يعرف ماكرون أنَّ دولة لبنان الكبير التي أعلنها الجنرال غورو قبل مائة عام تتدحرج وتلفظ ‏أنفاسها. وأنَّ اللبنانيين أمضوا عمرهم بين فشل الزواج واستحالة الطلاق. عاشوا دائماً في بلد ‏معلَّق. يلوّح بالموت ولا يموت. ويلوّح باستعادة الحياة ولا ينجح. ولأنَّ ماكرون صار يعرف ‏العجين واللاعبين صار باستطاعته أن يستنتج. وقع لبنان الكبير في أيدي محاربي لبنان الصغير. ‏في قبضة رجال أقلّ من الحلم الأول والسر الأول. ولا تطاول في الأمر ولا هجاء. إنَّهم ‏جنرالات جزرهم سواء سميتها طوائف أم مناطق أم معاقل. لا يملك أحدهم هالة خارج المنطقة ‏التي يشبهها وتشبهه. لا يملك تفويضاً أوسع منها. ولهذا السبب فإنَّ براعته تتجلَّى في تشييد ‏الجدران وهي مشفوعة دائماً بفشل مدوٍ في بناء الجسور.‏

ومن يدري فقد يكون لبنان الذي ولد قبل قرن جاء قبل أوانه. لم يكن اللبنانيون جاهزين لشرفة ‏بهذه الصعوبة. ولم تكن المنطقة جاهزة لزمن الشرفات. خريطة رسمت لتوفير مظلة لخائفين ‏على حريتهم أو ثقافتهم أو أسلوب عيشهم. أقليات قلقة من الوقت ومن افتقارها إلى الجموع التي ‏تعطي شعوراً بالقوة والحصانة. وهكذا وُلدت دولة تقوم على التانغو بين المختلفين في منطقة لم ‏يعرف عنها ولعها بغير الراقص الوحيد واللاعب الوحيد.‏

أغلب الظن أنَّ ماكرون سمع من مساعديه أنَّ القلق هو المواطن اللبناني الأبرز. وأنَّ لبنان الكبير ‏كان يتصدع سريعاً كلَّما ولد قوي في مكون رئيسي وانخرط في تحالف مع محاولة انقلاب في ‏الإقليم. وفي بلد هش تدور المغامرة دائماً على حفافي المقامرة وتأتي الخسائر فادحة. لقد حمَّل ‏كمال جنبلاط لبنان ما يفوق قدرته. ومثله فعل بشير الجميل. ومثلهما يفعل من موقع آخر حسن ‏نصر الله. لم يكن لبنان جاهزاً للتغيير الذي حلم به جنبلاط الأب مع احتضان ياسر عرفات. ‏عاقبته الجغرافيا وبدأ العصر السوري. ولم يكن لبنان جاهزاً لاحتضان انقلاب بحجم الذي حاول ‏بشير الجميل تنظيمه، فعاقبته الجغرافيا بالاغتيال. ولا قدرة للبنان على احتمال الانقلاب الكبير ‏الذي يشكله دور «حزب الله» الإقليمي وقد عاقبت الجغرافيا لبنان بالعزلة ما فاقم رحلته السريعة ‏نحو الإفلاس.‏

لم يمتلك اللبنانيون ما يكفي من الأنانية الوطنية للسعي إلى النجاة بأنفسهم من أعاصير المنطقة. ‏انخرطوا في تحالفات تفوق طاقتهم وفي نزاعات أكبر منهم وتحولوا فيها محاربين وبيادق. ماذا ‏ينفع اللبناني لو ربح معاركه في خرائط أخرى وخسر لبنان؟ ثم إنَّ لبنان يُدفع إلى كل هذه ‏الحروب بلا تفويض واضح أو صريح. حيث يرغم على قبول خسائر تحولت قاتلة في الفترة ‏الأخيرة.‏

لا توجد جهة لبنانية تملك حالياً فكرة منقذة تحظى بتأييد غالبية صريحة في كل المكونات ‏الأساسية. ولا وجود لمسؤولين من قماشة رجال الإنقاذ الذين لا بدَّ منهم عند المنعطفات الصعبة. ‏رجال عاديون أو أقل. لا علاقة لهؤلاء بفخر الدين الذي أيقظه الرحابنة ليتعلم اللبناني التائه من ‏وطنيته وانفتاحه. ولا علاقة لهؤلاء بمدلج «جبال الصوان» الذي استشهد دفاعاً عن البوابة. لا ‏علاقة للسياسيين اللبنانيين بوطن فيروز والرحابنة. وطن الحلم والحب والأصالة والتلاقي. وطن ‏قبول الآخر وحق الاختلاف والبحث الدائم عن الجسور. وطن القصائد والألحان والفرح ‏والمواويل والقناديل. الوطن الرافض كل أشكال الظلم، سواء جاءت على يد محتل من الخارج أو ‏مشروع مستبد من الداخل.‏

تعرَّض لبنان فيروز والرحابنة لعذاب فظيع. قُتل مع كل من قُتل. واغتيل مع كل من اغتيل. ‏وجُرح مع كل من جُرح. لم يتوقف لبنان الكبير عن إنجاب الصقور. لم يتعلم. ولم تتوقف بلاد ‏الأرز عن إنجاب القساة. لم تتعلم. ودبَّت الفوضى وفاحت الرداءة. لا الحكومات حكومات. ولا ‏البرلمان برلمان. ولا الرئيس رئيس. اختلط عشاق الدم بعشاق المال بعشاق الخراب. انفجرت ‏البلاد تحت وطأة الصفقات والسمسرات والمغامرات وحملات التضليل. انحسر وطن المناديل ‏والأيدي التي تلوح لمصلحة وطن السكاكين والأيدي التي تسرق. انهارت البلاد ولم يرف لهم ‏جفن.‏

يتجرَّع اللبناني الإهانات كما يتجرع الماء. كان يمكن لكارثة المرفأ أن تمر كحادثة سير، على ‏رغم أهوالها، لو لم يبادر ماكرون إلى رفع الصوت. جالَ في الأحياء المدمرة التي لم يجرؤ ‏مسؤول على الاقتراب منها. يتجرَّع اللبناني الإهانات. سيد الإليزيه أكثرُ انهماكاً بمنع اختفاء لبنان ‏من السادة الممددين في مكاتب الجمهورية وعلى شاشاتها. ينصح ويعاتب ويؤنب ويقرع. يستخدم ‏رصيده لإحراجهم بغية الإسراع في تشكيل حكومة تسمح للبنان بالتسول ورد الجوع عن ‏مواطنيه. يا للهول. سرق القراصنة دولة وأغرقوها. يهددون بقتل شعب كامل، ويستخدمون ‏الخردق وقلع العيون لمعاقبة المطالبين بالتغيير.‏

في المئوية الأولى للبنان الكبير يقف اللبنانيون عراة من كل أحلامهم. الدولة جيفة. الدستور ‏ممسحة. القانون خدعة. التعايش رحلة على زجاج مطحون. المسؤولون جثث بكمامات. لم يبقَ ‏من لبنان الكبير إلا ثريا معلقة فوق الفراغ الهائل. إسوارة في يد القرن الذي ضاع. لم يبقَ إلا ‏فيروز. النبع الوحيد الذي لم تنجح الحروب في تبشيعه. الغيمة الوحيدة التي تعد بالمطر. المنديل ‏الأخير الذي يمسح دموع المهاجرين. لم يبقَ إلا الصوت الكبير المطابق للبنان الكبير. الصوت ‏المسافر في الخريطة وخارجها.‏

من ذلك النبع الصافي. من قيم الوطنية والجمال والفن والحرية شاء ماكرون أن يستهلَّ رحلته ‏الحاسمة إلى لبنان. من منزل الأيقونة التي يقرع صوتها كالأجراس في ضمائر المكسورين ‏والمعذبين. ولا غرابة في الأمر. هذا الرئيس اللامع يخفي تحت ثيابه كاتباً لامعاً. لديه سلوك ‏يذكر بشجاعة أسلافه عند المنعطفات. أسلوبه يذكّر بفرنسا القيم الإنسانية، وفرنسا الشعراء ‏والكتاب، وقد كانوا دائماً وسادتها وأوسمتها. في ذكرى المئوية الأولى يزور «بياع الخواتم» ‏السيدة التي تعتبر بحق، آخر الخواتم في يد لبنان الكبير.‏



الشرق الأوسط - غسان شربل ‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

31 آب 2020 07:52