يتابع المستثمرون في جميع أنحاء العالم بشغف وترقب الأنباء الواردة بشأن ارتفاع أسعار الذهب في الفترة الأخيرة، حيث تخطى سعر الأونصة الألف دولار، باعتبار أن المعدن الأصفر لا يزال يشكل ملاذاً آمناً، مع استمرار أزمة الركود الاقتصادي العالمي.
وقال معنيون بالقطاع وخبراء إن الارتفاع ناجم، في المقام الأول من زيادة الطلب مقابل نقص الإنتاج وقلة المعروض، فقد توقفت بعض الدول المنتجة عن طرح إنتاجها في الأسواق مما يؤدي إلى نقص الكمية المعروضة في الأسواق، فضلاً عن تداعيات الأزمة المالية العالمية التي ما زالت قائمة، وانخفاض أسعار الفائدة على العملات الرئيسية، وسرعة تقلباتها صعوداً وهبوطاً.
وعلى المستوى اللبناني، فإن حركة صعود الذهب العالمية يقابلها تراجع على مستوى الحركة التجارية الداخلية. ويمتلك لبنان نحو 9,2 ملايين اونصة ذهب اشترتها السلطات اللبنانية في الستينيات والسبعينات. وفي ذلك الوقت، شهد ميزان المدفوعات اللبنانية فائضاً في نشاطاتها الاجمالية، ساعد على مواجهة العجز في الميزان التجاري وبالتالي وفرة السيولة النقدية. واستعملت الحكومة اللبنانية هذا الفائض بحكمة وقامت بشراء الذهب الذي يخزن اليوم بين بيروت والولايات المتحدة الأميركية. وتقدر قيمة احتياط الذهب اللبناني (9,22 ملايين أونصة) بنحو 9,035,600,000 دولار حسب الأسعار الحالية. ويعتبر هذا الرقم ضخماً ويشكل نحو (37,5%) من الناتج المحلي العام اللبناني، ونحو 22% من الدين العام.
ويقول نقيب الصاغة والمجوهرات في لبنان وليد معوض، في ما خص الذهب على المستوى العالمي، عندما يكون هناك تقلبات مستمرة في قيمة العملات، وكذلك فائدة متدنية، يتجه الناس الى توظيف أموالهم بشراء الذهب، اليوم هناك خوف من المجاعة في ظل الإفلاسات التي تشهدها كبرى المصارف والمؤسسات المالية العالمية، كما أن الناس لم يعد لديها ثقة بالعملة الورقية وهي تحبذ الذهاب الى المعادن ومنها الذهب. بالإضافة الى ذلك فالذهب اليوم مطلوب صناعياً وهو يدخل في مجال الكومبيوترات والالكترونيات، فمثلاً داخل كل هاتف خلوي يوجد غرام ذهب، وحتى في بعض أنواع الساعات، وهو ما يعني أن الذهب في اتجاه تصاعدي، ما نتكلم عنه هو الأسباب الموجبة التي أدت الى ارتفاع الذهب حالياً، لكن لا يمكن البناء على ذلك فالاحتمالات واردة أن تصبح الأمور معاكسة. وهذه معلومات وليست مؤشرات، ويجب أن يكون لدى الناس مثل هذه المعلومات، متى يشترى الذهب أو يباع، ففي الولايات المتحدة الأميركية، ثمة مؤشر مماثل يحدد الاتجاهات والمسارات التي يمكن البناء عليها في عملية الشراء والبناء.
ويضيف معوض إن العملات تحدد قيمتها بقوتها الشرائية لبعض السلع الحيوية الأساسية، فمثلاً برميل النفط منذ 4 أشهر بحدود 35 دولاراً، أي أن 100 دولار تشتري 3 براميل، واليوم البرميل بـ72 أي المئة دولار لا تشتري أكثر من برميل وثلث البرميل، وفي تموز (يوليو) 2008 كان بحاجة الى 147 دولاراً لشراء برميل واحد، والذهب واحدة من تلك السلع التي بامكانها تحديد قيمة العملات.
وأكد معوض صوابية السلطات النقدية وسياسة حاكم مصرف لبنان، لجهة عدم تسييل الذهب، وقال هذه السلطات لو سمعت النصائح التي دأبت تطالب بتسييل الذهب لسداد جزء من الدين، لكانت الصرخة ارتفعت اليوم بعدما أصبحت قيمة الذهب المخزنة تشكل ما قيمته ربع الدين العام الموجود اليوم، وكان سابقاً لا يشكل أكثر من 4 أو 5% من قيمة الدين.
وأضاف إذا أرادت الدولة سد العجز يمكنها اللجوء الى غير الذهب، هناك مشروع لينور أو ما يعرف الضاحية الشمالية لبيروت حيث بالامكان ردم 6 ملايين متر مربع تشكل ما قيمته 6 مليارات دولار إذا ما احتسب المتر بـ1000 دولار.
وقال معوض الذهب الموجود اليوم في المصرف المركزي يشكل ضمانة للعملة الوطنية ـ الليرة، كل عملة لا تغطى بالذهب لا قيمة لها، فعندما تزداد عمليات طبع العملة تخف قيمتها، فالدولار خفت قيمته بسبب كثرة طباعته، اليوم أميركا تطبع من عملتها لتحمي التضخم، الآن الأسواق تتجه الى التضخم الصناعي.
وأضاف إن ثبات سعر صرف الليرة كان عاملاً مهماً لاستقرار الوضع النقدي، كما أنه شكل عامل استقرار اجتماعي، فسياسة مصرف لبنان الثابتة في مرحلتي الصعود والهبوط، ساعدت في عملية الاستقرار النقدي والاجتماعي، وهذا يعود الى عملية ربط العملة بالذهب، وأضاف إن الاجراءات التي اتخذتها السلطات النقدية أسهمت في تعزيز الثقة بالليرة.
وإذ توقع استمرار ارتفاع الذهب عالمياً، قال معوض كل صعود في الذهب يؤثر في حركة شرائه ومبيعه على المستوى الداخلي، وخصوصاً بالنسبة للمصوغات الذهبية التي تباع بالوزن على الغرام، أما المجوهرات فهي لا تتأثر كثيراً لأنها ليست من الذهب الخالص، بل تتشارك في صناعتها الى جانب الذهب، الأحجار الكريمة، الصياغة، الإبداع والحرفية، ولذلك فإن أسعارها لا تتأثر بأسعار الذهب وحده.
الذهب اللبناني: للتخزين أم للاستثمار؟
يرى الخبير الاقتصادي حسن عمر العلي، ان قيمة الاحتياط للذهب تعتبر قيمة وكبيرة نسبياً، وتعطي رونقاً اضافياً للون الذهب وشكله. لكن هل هذا يكفي؟.
ويسأل هل تقدمنا باتجاه الاستثمار في الذهب، او ان احتياط الذهب ظل يخدم كاسطورة نفسية وكنشاط تخزين اجباري مقلق؟. ويقول كان الجدل قائماً حول فكرة بيع حتى جزء من هذا الاحتياط، ويتمحور حول موضوع ان الاحتياط يحافظ على القيمة الشرائية لليرة، وفي ذلك كلام غير صحيح. ففي العام 1992، تدهورت قيمة الليرة بشكل كبير مقابل الدولار (كل دولار أميركي واحد أصبح يساوي نحو 2800 ليرة)، والغريب ان احتياط الذهب كان موجوداً في حينها ولم يحافظ ذلك الاحتياط على قيمة الليرة اللبنانية. لسوء الحظ انه لم يكن هناك رؤية مستقبلية حول الذهب وحول التغييرات الحاصلة حول العالم على الصعيد المكرواقتصادي.
ويرى العلي أن احتياط الذهب اللبناني ليس الا للتخزين، وحتى تخزين اجباري مقلق اذا اخذنا بالاعتبار مفهوم التأثير النفسي لتخزين الذهب، الذي طالما سمعناه من قبل المسؤولين اللبنانيين. والى ذلك فإن على الحكومة اللبنانية ان تدفع أقساطاً لتخزين وحماية احتياط الذهب. يجب النظر الى ما علينا فعله في المستقبل. إن مسطرة من التوقعات الحالية تشير الى أن سعر الذهب سيتأرجح خلال الاشهر العشرة المقبلة، فمثلاً اذا تم بيع 20% من الذهب اللبناني في أيلول (سبتمبر) 2009 بسعر نحو 946 دولاراً للاونصة (على الاقل)، بحلول تشرين الثاني (نوفمبر) 2009 شراء الكمية ذاتها 20% من الذهب بسعر 925 دولاراً للاونصة، فالفائض بالقيمة سيكون 21 دولاراً للاونصة والقيمة بالدولار ستكون 193,620,000 دولار مع الاحتفاظ بكامل كمية الذهب حتى تشرين الثاني (نوفمبر). وسيتم استثمار الفائض الناتج في اصول تنتج اصولاً وارباحاً اخرى، ولكن ليس للعب دور في دفع الدين العام اللبناني.
ويتابع يمكن استثمار هذا الفائض واي فائض ينتج عنه في تمويل مشاريع واعدة وقليلة المخاطر في لبنان والخارج او لمعالجة قضية الحسابات المشكوك فيها مع القطاع العقاري المجمد التي تملكها البنوك اللبنانية مع مدينين محليين والتي تقدر بمئات ملايين الدولارات على الاقل.
ويرى العلي، أنه بالنظر الى التوقعات بشأن سعر الذهب، وكما نعرف فان النظام اللبناني المصرفي والمالي اثبت مناعة حيال الأزمة المالية، وبالنتيجة نستطيع بناء وحدة عمل لهذا الهدف تضم اقتصاديين ومصرفيين وماليين محليين مع مشاركة جزئية من الخارج. وبخصوص الاجراءات السريعة في بيع وشراء الذهب، فالحكومة والأجهزة اللبنانية يجب عليها تمهيد الطريق للتأكيد على فعالية دورة البيع الجزئي والشراء للذهب.
لماذا يعتبر الاستثمار بالذهب في هذا الوقت واجب؟ يقول العلي لان الاستثمار هو اعادة توجيه للموارد: من استهلاكها اليوم الى استخدامها في خلق موارد أخرى في المستقبل وفي استعمال الاصول لجني الارباح والمداخيل من خلالها. لذلك يجب علينا حماية احتياط الذهب لدينا من الاستهلاك اليوم من خلال هبوط حاد محتمل في اسعار الذهب وعلينا استعمال موارد البيع الجزئي لاحتياط الذهب لانتاج الارباح. وقد حذرت الاحصاءات والمؤشرات التقنية الصادرة مؤخراً من هبوط سريع ومؤثر في سعر الذهب في وقت قصير، فمثلاً عندما ارتفع سعر الذهب سريعاً في سنة 1979و1980 الى 850 دولاراً لحق ذلك هبوط الى 500 دولار في اقل من شهرين. لذلك لن يكون غريباً ان يهبط سعر الذهب في وقت قصير. وهناك عامل مهم وراء الهبوط الحاد وهو انه في الظروف الاقتصادية الحالية، هناك مال اقل لشراء المجوهرات والاستثمار في الذهب. ذلك يظهر في مستوى الطلب المنخفض في التقارير الاخيرة. ان الطلب على المجوهرات الذي يمثل نحو 70% من الطلب على الذهب انخفض 24% في الربع الاول من العام 2009. هذا الهبوط في الطلب يمكن ألا يتأثر باي انخفاض في قيمة الدولار.
ومن جهته، يرى نقيب معلمي الصاغة والمجوهرات يوغوص كورديان، أن التوقعات صدقت بشأن ارتفاع أونصة الذهب والتي تعدت الألف دولار، وقال إن هذا انعكاس للأزمة العالمية وللمشكلات السياسية التي تجوب العالم عرضاً وطولاً، بدءاً من أحداث العراق مروراً بأزمة النووي الإيراني وفلسطين وأفغانستان.وهذه المشكلات ترتبط ببعضها البعض، مضيفاً أن عامل الخوف الذي ينتشر بين سكان الأرض من إمكان اندلاعات حروب تؤثر في اقتصادات العالم، جعلت الناس يلجأوون الى الذهب باعتباره ملاذاً آمناً، وفي لبنان لجأ الناس الى العقار كملاذ آمن وهو السبب في ارتفاعه داخلياً، كما أن الناس تلجأ في أوقات الخوف الى المعادن الثمينة.
وتوقع كورديان ألا ينزل سعر الأونصة عن 750 دولاراً حتى لو استقرت الأوضاع الاقتصادية والسياسية عالمياً، ومرد ذلك الى ندرة وجود الذهب وتكلفة استخراجه. ولفت الى أنه هناك أيضاً تراجع على مستوى الانتاج.
وفي المقابل، يتوقع كورديان صعود الأونصة الى أكثر من 1300 دولار فيما لو استمرت العوامل السياسية والاقتصادية بنفس مستوى الضغط الحاصل الآن، وقال إن استمرار الركود والانكماش الاقتصادي واندلاع أي حرب دولية، من شأنها أن ترفع الذهب الى مستويات قياسية جديدة.
وقال إن الشرقيين يؤمنون بالاقتصادات الثابتة مثل الذهب والأراضي وهو مبدأ كرسه أجدادنا ونحن نؤمن به اليوم وكانوا هم على حق. ولبنانياً أشار الى أن من شأن الارتفاعات الجديدة التأثير في النشاط التجاري للذهب، خصوصاً وأن القدرة الشرائية للناس في تدهور دائم.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.