داوود الصايغ

16 حزيران 2020 | 13:07

مقالات

كيف أفلت الدستور من أيدي حامليه؟

كيف أفلت الدستور من أيدي حامليه؟

كتب داود الصايغ في النهار

يوم كتبوا في الدستور المعّدل أن لبنان هو وطن نهائي لجميع أبنائه، لم يكن من المتوقّع أن يبدو هؤلاء الأبناء بعد سنوات، نتيجة الصراعات الطارئة أو الدخيلة، كأنهم مجموعات متباعدة، متنافرة، ينقصها شرارة كي تشتعل فيما بينها، كما كاد أن يحصل منذ أيام، ويقودها أولياء أمر يتناتشون الحصص والتعيينات ومجالس الإدارة ومعامل الكهرباء.

ويوم كتبوا في ذلك الدستور بأن رئيس الجمهورية هو "رمز وحدة الوطن" إنما كانوا يتوقّعون أن يغدو ذلك الرئيس فوق القوى والطوائف والمصالح، يسلخ نفسه عن كلّ روابط الدم والقربى والمناصرة، ليصبح صاحب رسالة أكثر مما هو صاحب صلاحيات، لا همّ له سوى التوفيق والتوحيد. فالمشترع الدستوري رفعه إلى حيث يجب أن يكون: رمز وحدة الوطن، وهذا بُعدٌ دستوري يجب أن يفسّر بالمعنى الذي يعطيه مفعولًا.

ويوم كُتِب في الدستور المعّدل أيضًا أن بإمكان رئيس الجمهورية ردّ قرار لمجلس الوزراء ليعيد النظر فيه، فإن المشترع لم يكن ليتوقّع أن يحدث ذلك من أجل... معمل كهرباء في منطقةٍ معيّنة، وأن ينزل القانون الأسمى إلى مستوى فيدرالية المعامل، كرمى لمصلحةٍ شديدة الوضوح، صاحبها معروف. فإذا كان الوطن واحدًا موحّدًا ولجميع أبنائه فأين الضير إذا جاءته أنوار الكهرباء من الجنوب أو الشمال أو البقاع. فالنور يشرق على الجميع بالنسبة إلى الذين تحرّروا من ظلمة المصالح. فالمصالح هي ظلام العقول وعتمة النفوس في مسؤولية المسؤولين.

ويوم قال القانون إن صلاحيات المسؤولين بالنسبة إلى قرارات مجلس القضاء الأعلى هي صلاحية مقيّدة، لم يكن من المنتظر أن يختبئ المرسوم في الأدراج بالرغم من التصويت عليه بالإجماع مرّتين من قبل مجلس القضاء الأعلى، وأن يتمّ ردّه من قبل رئيس الجمهورية في النهاية.

وبكلمة، كيف أفلت الدستور من أيدي حامليه والمؤتمنين عليه. ألم نكن بغنى عن تلك السابقة الخطرة دستوريًا وسياسيًا في إظهار اجتماعات مجلس الوزراء كأنها على درجتين: درجةٌ أولى برئاسة رئيس الجمهورية، ودرجةٌ ثانية برئاسة رئيس الحكومة. وأن يتغيّر التصويت كلّيًا في مدى أسبوع، معطّلًا تصويت مجلس الوزراء الأول برئاسة رئيسه.

كيف؟ كيف حصل ذلك ولماذا؟ حصل ذلك والوطن في خطر. إذ عندما تكون الأوطان في خطر، فالساعة هي للجمع. هكذا تصرّف الكبار من الذين أنقذوا أوطانهم في ساعات الشدّة. وساعات لبنان اليوم شدّة كلّها، في أي اتّجاه تحوّلت الأنظار. شدّةٌ في تخلّي العالم عنا عربيًا وغربيًا، متركون، مهملون، حين عجزنا عن تحريك علاقات الصداقة مع الأصدقاء الذين وقفوا إلى جانبنا بكلّ إخلاص ووضوح، كما جرى لآخر مرّة في اجتماعات باريس في نيسان 2018 وقت مؤتمر سيدر.

شدّةٌ في ضعف الأداء الفاضح وانعدام الجدارة في تحمّل المسؤوليات، وسط أدق مرحلة عرفها لبنان في تاريخه الاستقلالي. شدّةٌ تحوّلت إلى تساؤلٍ مرير عندما استمع اللبنانييون إلى رئيس الحكومة يعدّد إنجازات ملفّ فارغ، من دون أن يطالبه أحد بالحساب، سوى رغبةٌ بتقليد ذلك العرف المعمول به في فرنسا، وهو محاسبة المسؤولين عن المئة يوم الأولى. فما لنا وللفرنسيين في هذا الشأن. وإذا به، قبل أربعة أيام، وبعد أن تحدّث عن مؤمرات فوق الطاولة وتحت الطاولة، يعدّ اللبنانيين بأن ودائعهم في المصارف، رغم أنها اليوم حسابات ورقية، لم تضيع عليهم، ولكن دون أن يقول على ماذا هو مستند.

فمَن مِن المسؤولين الحاليين من ذووي المصداقية بمستطاعه اليوم أن يخاطب أو أن يلتقي مسؤولًا دوليًا، في ما يتجاوز استدعاء السفراء الذين من واجبهم أن يحضروا. فأين هي قوّة الأقوياء الموعودة والتي أرسوا المعارك المدمّرة عليها وفي سبيلها. أقوياء على من.

ممارسة القوّة تكون في سبيل معمل كهرباء، أم لصدّ المطالبات بهدم الميثاق الوطني وإعادة التأسيس. فكيف تراجعت تلك القّوة إزاء مطالبات متكرّرة مجهولة معروفة، في سبيل الإفادة من وقت مضطرب، وسط صراعات إقليمية حادة. أين هي الأمانة بين أيديكم، وسط ارتفاع أصوات تدعو إلى هدم الهيكل. أين هو الصوت الهادر الغاضب الذي يردع محاولات العبث بالأسس. فلبنان قائم على أسس، وما من أحد يستطيع النيل منها. هذا معروف ومسلم به منذ اللحظات الأولى. ولكن لماذا لذتم بالصمت. أهَرَبُ هو، أم اكتفاء بالسعي وراء السلطة الأخرى، أو ما بقي منها كما في ذلك التلكؤ المريب في التعيينات الاصلاحية التي يراقبنا العالم عليها. خلافات بين من ومن، مجالس إدارة جديدة بين من ومن، يا للفظاعة! لبنان جائع، عطش، معتم، مفلس، ضائع ومتروك، وأنتم تتقاسمون حصص مجالس الإدارة الجديدة.

ولكن انتبهوا لم يأتِ كلام إعادة التأسيس من فراغ، كلام رجل الدين الذي يريد إلغاء الميثاق الوطني. إنه كلامٌ يتكرّر بين الحين والآخر، ولكن هذه المرّة خرج بهذه الصورة الفجّة إلى العلن. لأن كلام الحكمة تعطّل في عقول من يُفترض بهم أن ينطقوا به. لعله غاب مع الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين في وصاياه، للذين لم يقرؤوا كلامه عن لبنان المنارة والنموذج، لعلّه غاب مع السيّد هاني فحص الذي كان يصرخ مستغيثًا "دبّروا لي وطنًا"، وهو يحاضر في دير سيّدة ميفوق ويعلن أن هجرة المسيحيين خيانة. لعله تلاشى بعد كلام الإمام السيّد موسى الصدر من أمام مذبح كنيسة الكبّوشيين في الحمراء. كلامٌ نابع من عقول السماحة وصفاء النفوس الرضية المندمجة بالأرض والتراب في تراث العيش الطويل حيث كانت تختلط المشاعر في أيام عشوراء في قرى الاختلاط بخاصة بمشاعر الوفاء والأخوّة والاعتدال.

كان ذلك في مراحل التأسيس. نعم. إنه استغرف سنوات منذ ذلك اليوم من خريف 1943، حين احتشد في قلعة راشيا كلٌّ من بشارة الخوري ورياض الصلح وعادل عسيران وعبدالحميد كرامه وكميل شمعون وسليم تقلا. وحين انتفض في بشامون مجيد أرسلان وحبيب أبو شهلا. كلّهم كانوا موجودين. شاءت الأقدار أن يكون ممثّلو الطوائف الستّ المؤّسسة للكيان موجودة في حركة النشوء والاستقلال. في الاستقلال والصيغة والتجربة. سمّوها ما شئتم. إنها نبيلةٌ في اقتحام هؤلاء المؤسّسين الشجعان مجال البناء، فبنوا وعمّروا ووضعوا الأسس. أما ماذا حصل بعد ذلك، فإن المنتفضين من أهل الإخلاص والوفاء يسبقونكم في الغضب والتمرّد والسخط على الذين حوّلوا المساحة السامية إلى مكانٍ لاقتسام الجبنة. جميعهم شاركوا من دون استثناء وها هي اليوم، اليوم بالذات، قضية معمل الكهرباء تعيدنا إلى الواقع الشديد الإيلام، واقع الحصص على أيدي منتفعين يتلاعبون بالقرار السياسي من وراء الستار.

الرؤساء والوزراء يشرّفهم أن ينصاعوا للدستور والقوانين وبخاصة أن رئيس الجمهورية يقسم اليمين بالمحافظة على "دستور الأمة وقوانينها".

الدستوري الفرنسي الكبير جان جيكيل، حسبما يحبّ أن يستشهد به القانوني الكبير والمثقّف حسن الرفاعي، كتب مرّة يقول للرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي تأخّر بتوقيع مرسوم من واجبه أن يوقّع عليه: أنت بوسطجي! مهمّتك هنا هي فقط أن توقّع. ووقّع. لأنهم في فرنسا أرباب مفهوم دولة القانون أو دولة الحقّ التي يشرّف مسؤولييها أن ينصاعوا لأحكام الدستور والقوانين تمامًا بعكس ما حصل عندنا بكلّ أسف وبخاصة في موضوع مرسوم التشكيلات القضائية وعندما سمعنا بعضهم يقول أنا لست ساعي بريد.

كونوا أكيدين: لن نشهد أي إنجازٍ على أيدي الحاليين، على أي مقعدٍ كانوا جالسين. أتدرون لماذا؟ لأن الكبار من أصحاب الإنجازات لا يأتون كلّ يوم. إنهم في الحقيقة استثناء، عندنا وعند غيرنا. إنهم لا يأتون كلّ يوم إلى مراكز القيادة. كتب المفكّر الفرنسي رجيس دوبريه في كتابه "حضارات": ليس كلّ يوم يأتي فرانكلين روزفلت وجون كيندي وباراك أوباما. إنه وضع أوباما بين العظماء لأن مجرّد وصول ذلك الرجل كان قضية، رجل ملون ذو جذور إسلامية وصل إلى قيادة أميركا والعالم. نعم هذا وصوله قضية، ولكن أين قضية الآخرين من وصولهم. فكم من العظماء عندنا؟ أو بالأحرى كم من الذين قدّر لهم وقدّر لنا معهم أن يشهد لهم التاريخ؟ في الحقيقة كم من الذين تعاقبوا على الكراسي عندنا منذ الاستقلال وحتى اليوم يشهد لهم التاريخ، يشهد لهم بما أنجزوا وليس فقط لأنهم وصلوا، هؤلاء اكتفوا بالوصول ولكن هل اكتفى التاريخ.

النهار

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

داوود الصايغ

16 حزيران 2020 13:07