15 حزيران 2020 | 20:34

منوعات

‏"اللعازارية'.. من رمز إزدهار بيروت إلى شاهد على إحراقها!‏

زياد سامي عيتاني*‏



بناية "اللعازارية" ومحيطها في وسط بيروت-شارع الأمير بشير، صارت عنواناً يومياً يتصدر ‏الأخبار المؤلمة، التي تدمى لها القلوب وتدمع لها العيون، من جراء أعمال الشغب والتخريب ‏وإشعالٍ لنيران الكراهية والضغينة والفتنة البغيضة المتعمدة والممنهجة، التي يتعرض لها قلب ‏بيروت من قبل الحاقدين الغوغاء أصحاب القلوب والأيادي السوداء، الذين يندسون بين صفوف ‏الغاضبين المنتفضين على واقعهم المعيشي والحياتي المأساوي، ليطعنوها بخناجرهم المسمومة ‏كعقولهم، وكأنهم يحققون وينفذون عن قصد مبيت رغبة من هدد يوماً بتكسيرها!!!‏

‏**‏

بناية "اللعازاية، عدا كونها مؤسسة وقفية عريقة لراهبات اللعازارية، فهي كمركز ومجمع ‏تجاربي، قبل الحرب العبثية-المدمرة، كانت ذات دلالة ورمزية لحقبة الإزدهار والإنتعاش ‏الاقتصادي الذي شهدته بيروت، ونَعِم برخائه اللبنانيون، كل اللبنانيين بمختلف شرائحهم وأطيافهم ‏الإجتماعية والطبقية، بحكم الدور المركزي للعاصمة كحاضنة للوطن ورافعة لنسيجه المجتمعي، ‏لأنها كانت ملاذاً لكل باحث عن قيمته الإنسانية، من كل حدب وصوب، من المناطق المتاخمة ‏‏(خندق الغميق) والمناطق البعيدة (الأرياف وأحزمة البؤس)، سعياً لرزق حلال ولقمة عيش هنية، ‏فكانت "اللعازارية" مفعمة بالحياة، وتضج بحركة تشبه حركة المدينة التي لا تهدأ، حتى صارت ‏مدينة قائمة بذاتها، تختصر بيروت ووسطها بكل أنماطها وسلوكياتها المتناقضة والمتجانسة في ‏آنٍ. معاً...‏

‏**‏

‏•من دير إلى مجمع تجاري:‏

في سياق الحديث عن بناية "اللعازارية" وتاريخها، لا بد من الإشارة إلى أنه قد إنتشر أواخر ‏القرن ما قبل الماضي في بيروت وباء أُصيبت به عيون الأطفال في المدينة. وهذا الوباء هو ‏نوع من الرمد يدعى " تراخوما ". ولمكافحة هذا الوباء وعلاج المرْضَى منه قَدُمَتْ إلى بيروت ‏بعثة من راهبات " اللعازارية " ضربت خيامها تجاه درج خان البيض (رجال الأربيعن) في نفس ‏المكان الذي شيدت فيه بناية " اللعازارية " اليوم. وكان يومذاك أرضاً بوراً أفلحت هذه البعثة في ‏إنجاز ما قدِمت من أجله، وخفت وطأة " التراخوما " في البلد، مما حمل السلطان عبد المجيد ‏الأول على إصدار "فرمان شاهاني" بتقديم الأرض التي خيمت فيها الراهبات المذكورات ملكاً ‏لهن وذلك جزاء على خدماتهن الطبية الإنسانية. والذي حصل آنذاك أن الراهبات بنين على ‏الأرض الموهوبة لهن ديراً، عُرف باسم "دير اللعازارية "، الذي تحول إلى ملاذ للمحتاجين من ‏مختلف الطوائف والفئات، ورسالة محبة وعطاء في المدينة التي كانت بدأت تتوسع، وذلك قبل ‏نقل الدير والمؤسسات الخيرية والإنسانية الملحقة به إلى عدة مناطق لبنانية، أبرزها الأشرفية ‏القريبة من وسط العاصمة، لبنى على عقاراته مجمع تجاري يعود ريعه لتمويل المؤسسات ‏التربوية والإنسانية.‏

‏**‏

‏•معلماً معمارياً وتجارياً:‏

ففي خمسينات القرن الماضي، كان ينتصب في وسط بيروت وقلبها النابض، مقابل مدخل درج ‏‏"خان البيض" (درج الأربعين) مجمعاً تجارياً بحجارته الصفراء ومبانيه المنتظمة هندسياً، هو ‏الأضخم في حينه، إنه مبنى "اللعازاية" وملحقاته، كان ينتصب كمعلم من معالم المدينة المتجددة ‏هندسياً ومعمارياً بشكل تدريجي، مواكبة لحركة التطور العماراني، ليُستكمل المشهد "البانورامي" ‏للمدينة التي لا تشيخ، إلى جانب المعالم المكملة: كاتيدرائة "مار جرجس" للموارنة، "الريفولي"، ‏‏"التياتر الكبير"، "العسيلي"، ومقهى "الباريزانيا"، وسواها من المباني، التي شكلت الخارطة ‏الجينية التطويرية للمدينة المتمددة والمتجددة، والتي مزجت ما بين الماضي التقلدي والحاضر ‏الملبي لمقتضيات الحداثة...‏

‏**‏

‏•سبعة مبانٍ بشكل مربع:‏

فعلى عقار مساحته 8363 متراً مربعاً، شيدت سبعة مبان مساحتها 34295 متراً مربعاً، بشكل ‏مربع، بتصميم من المهندس الفرنسي لوكونت، شكلت مجمع "اللعازاية"، إحدى المباني السبعة، ‏كان عمودياً مؤلف من 13 طبقة، الى طبقتين سفليتين تحت الارض كانتا تستعملان مواقف ‏للسيارات. ‏

وبدأ تنفيذ مشروع بناء المجمع التجاري الكبير، على أن تخصص عائداته وبدلات إيجاره لتمويل ‏مشاريع الرهبانية "اللعازارية" وأعمالها الخيرية، حيث تولى "بنك سوريا ولبنان" تمويل ‏المشروع، الذي إنتهت أعماله في العام 1955.‏

مع الإشارة أنه عند تشييد المجمع، كثر كانوا يأتون خصيصاً إليه بدافع الحشرية، لمشاهدة ‏المصعدين يعملان من دون توقف، في صعود وهبوط دائمين، وعلى بابيها موظفان خاصان ‏لخدمة الزوار. كان الأمر غريباً فعلاً في تلك الحقبة، كأن المصعدين "مركبتان فضائيتان”.‏

‏**‏

‏•شاهد على تجدد المدينة:‏

يذكر أن بيروت إنتظرت حلول مطلع الأربعينات من القرن العشرين لتشهد أبنيتها إرتفاعاً في ‏طبقاتها، تعدى في بعض الحالات الطبقات الثماني.‏

وقد تعود الأسباب التي ساهمت في مثل هذا الإرتفاع إلى أمرين إثنين: الأول إستخدام الإسمنت ‏في عملية البناء، مما ساعد المهندسين على إمتلاك تقنية جديدة سهلت لهم الشروع في بناء الأبنية ‏العالية. والسبب الثاني ظهور المصعد الكهربائي الذي يسهل عملية الصعود إلى الطبقات العليا من ‏دون عناء أو مشقة.‏

هذا النموذج المعماري الذي بدأ يغلب على الأبنية الخاصة بالأنشطة التجارية ما لبث أن إعتمد في ‏أواخر ستينات القرن الماضي مواد بناء جديدة، هي الواجهات الزجاجية، كبناية "المصرف ‏العربي" في شارع المصارف وبناية "بنك إنترا" في الحمراء ومجمع "الجيفينور" في الحمراء ‏أيضاً. كما شهدت هذه الحقبة زيادة في إرتفاع الأبنية ليصل عدد طبقاتها أحياناً إلى ما يزيد عن ‏ثلاثين طبقة، كبرجي "المر" في القنطاري و"رزق" في الأشرفية.‏

‏**‏

‏•حركة لا تهدأ:‏

ومنذ ذلك الوقت بات مجمع "اللعازارية" بمثابة نقطة إرتكاز تجاري، . في الداخل، كان المجمع ‏الاصفر الضخم يغلي بالحركة، حيث كان مقراً لعشرات المكاتب والشركات على إختلاف وتعدد ‏إختصاصها، وكان يضم أيضاً أكثر من خمس مكتبات كبيرة، منها: "مكتبة لبنان" و"مكتبة ‏الفرح"، ومكاتب نقابة المحررين، وصحف "الكفاح" و"اليوم"، وقرطاسية "كامل"، ومحلات ‏‏"معتوق"، و"غندور"، و"حداد، ومقهى "لاسورس"، و"إستديو مصر" (لاحقاً إستديو نقولا) ‏لصاحبه نقولا الحجار، والصراف "قصابية" ومطابع "اليوم" و"الحياة "و"أوهانس"...‏

وكان إسم "اللعازارية" نقطة إستدلال، فسيارات الأجرة كانت تنطلق من جوانبه الأربعة لتذهب ‏في كل إتجاه. منه ينطلق "السرفيس و"التاكسي"، وإليه يصلان. وفيه، تحت الأرض وفوقها، ‏كانت تنتشر "الكاراجات" ومكاتب سيارات الأجرة، منها: كاراج "سعد" وكاراج "صيدا" وكاراج ‏‏"السكاكيني" وكاراج "راشد حمزة" وغيرها…‏

وعلى أرصفته كان يتخذ الباعة المتجولين مركزاً لهم، لا سيما باعة الصحف والياناصيب ‏والفستق السوداني والليموناضة والفيريسكو وشراب التوت والعرق سوس ولبن العيران، وحتى ‏لعيبة "الكشاتبين" و"ال ٣ أورق" كانوا في غفلة عن "كبسة" الشرطة يحاولون إستغلال المارة ‏‏"المغفلين" لقاء علبة سجائر "لوكي"...‏

‏**‏

‏•محيط "اللعازارية" منطقة تجارية متكاملة:‏

‏ لم تقتصر على مبانيه، بل إمتدت إلى محيطه بأكمله، حتى تحولت منطقة "اللعازارية" منطقة ‏تجارية متكاملة، وكأنها مهرجان دائم، إذ كانت تضم مكاتب وشركات ومؤسسات ومكتبات ‏وصحف ومسارح ومقاهي وباعة ومحال تجارية لبيع كل صنف ولون من حلويات وكتب ‏وقرطاسية وأحذية وتصوير فوتوغرافي...‏

ففي عمق شارع الأمير بشير بين بناية "اللعازارية" وساحة رياض الصلح (عسور) يرتفع مبنى ‏‏"التياترو الكبير" الذي بناه إبان الإنتداب الفرنسي بمبادرة فردية الثري جاك تابت، ليكون ‏أسطورة مسارح بيروت، وصرحاً مسرحياً بمواصفات عالمية، تاريخه الزاهي يختزن أسماء ‏شخصيات وفرق فنية لبنانية وعربية وعالمية، ممن مروا على خشبته المخملية الراقية ليدونوا ‏أسماءهم بأحرف مذهبة.‏

وفي شارع الأمير بشير أيضاً قرب "اللعازارية" كان ثمة معلم كبير هو مكتبة أنطوان العائدة لآل ‏نوفل التي كانت زاخرة بما تيسر من المؤلفات والمجلات الفرنسية. ‏

وخلف بناية اللعازارية كانت تقع محلات تجار الطحين. ‏

كذلك كانت تقع خلف بناية "اللعازارية" مكاتب صحيفتي "الطّيار" و "التلغراف" اللتان كان ‏يصدرهما الشقيقان نسيب المتني الصحافي الذي أدى مقتله سنة 1958 المدخل الى نشوب ‏الحرب الأهلية عام 1958، وشقيقه توفيق المتني. وفي المحلة نفسها كانت تصدر صحيفة ‏‏"الكفاح" ومجلة "الأحد" اللتان كان يصدرهما نقيب الصحافة المغدور المرحوم رياض طه. وفي ‏الشارع نفسه كانت تقع مكاتب صحيفة "اليوم" التي كان يصدرها الشقيقان عفيف الطيبي الذي ‏انتخب لفترة طويلة نقيباً للصحافيين وشقيقه وفيق الطيبي الذي انتخب نقيباً للمحررين. ‏

وفي منطقة الخندق الغميق في زقاق الغلغول كانت تصدر صحيفة "الحياة" لصاحبها المرحوم ‏كامل مروة، وكذلك صحيفته الأخرى الدايلي ستار".‏

أما مقابل "اللعازارية" كان ثمة سوق للسكاكر يتخذ أصحاب محلاته من درج "خان البيض" ‏إلى سوق "أبو النصر" نزولاً مركزاً لهم.‏

وفي هذه المنطقة وبالذات في سوق أبو النصر كان ثمة مصنعان صغيران لصناعة الحلويات ‏وتجارتها عائدان لعائلتيّ غندور وجبر. وقد تخصصت هاتان العائلتان بصناعة الحلاوة إضافة ‏إلى بعض السكاكر من الملبس والشوكولا، وبقيتا على تخصصهما في هذا المجال...‏

‏**‏

‏•سوقاً لمقايضة الكتب المدرسية المستعملة:‏

وللكتاب و"اللعازارية" قصة أخرى، فعلى حجة المكتبات داخل المبنى وفي الشوارع المحيطة به، ‏كشارع "المعرض" وشارع "سوريا"، حيث كان يتردد التلامذة والطلاب الجامعيون لشراء كتبهم ‏قبيل بداية العام الدراسي مع حلول شهر تشرين من كل عام، نشأت سوق موازية (مؤقتة) للكتب ‏المستعملة بأسعار زهيدة، في الباحة الداخلية وعلى الأرصفة الجانبية عرفت بسوق "اللعازارية"، ‏حيث كان خلال موسع بيع وشراء وإستبدال الكتب المستعملة، يصعد الدخول والخروج إلى ‏المجمع بسبب حجم الإزدحام غير المسبوق الذي يستمر ليلاً نهاراً.‏

وكانت الفرحة الكبرى لأصحاب المكتبات والبسطات عندما تتوافد عليهم الآلاف المؤلفة من ‏الطلاب الذين يريدون بيع كتبهم التي انتهوا منها، ليشتروا بثمنها كتباً مستعملة للسنة الدراسية ‏المقبلة. فكانت هذه السوق مكاناً رائجاً لهذه التجارة وسوقاً للمقايضة أيضاً، ذلك أن بعض ‏الطلاب كان يعرض كتبه على سبيل المقايضة مع كتب أخرى.‏

والمفارقة أن أغلب من كان يمتهن تجارة الكتب هم من عائلات الزين ومغنية وعاصي، ‏وغالبيتهم يقطنون وقتها منطقة الخندق الغميق.‏

‏**‏

بعد أن كانت "العازارية" ظاهرة مميزة في المدينة العتيقة، التي كانت تفتخر بتراثها وبمواكبتها ‏لروح العصر والحداثة، وبالذكريات الحميمة في شوارعها، يوم كانت بيروت مجموعة نماذج ‏انسانية ومعمارية، ها هي اليوم تتحول إلى ظاهرة غريبة عن تراثها وتاريخها، أمام إصرار ‏وإمعان الظلاميين لتحويلها إلى شهيدة-شاهدة على ما تكترف أياديهم من تنكيل وعبث وخراب ‏منظم لتشويه معالم المدينة الجمالية وحجب شمسها المشعة حضارة ضاربة جذورها في عمق ‏أرضها!!!‏


‏*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.‏











يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

15 حزيران 2020 20:34