8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

بعد نصف قرن.. نهاية تليق بالبعث السوري

من يتمعّن في نصف قرن من حكم البعث لسوريا، أو حكم سوريا باسم البعث، يستغرب كيف استطاع هذا البلد البقاء حيّاً يرزق على الرغم من كلّ الظلم الذي تعرّض له. فخمسون عاماً أكثر من كافية لتفريغ أي بلد من كلّ مؤسساته وكلّ ما هو حضاري فيه وحتى من شعبه. لكنّ سوريا صمدت.
الدليل على صمودها الثورة التي يقوم بها شعبها. إنها أمُ الثورات العربية وأبوها. إنها الثورة الحقيقية الوحيدة بين الثورات التي شهدها العالم العربي ابتداء من سنة 2010. ما يؤكد ذلك صمود الشعب السوري وحيداً طوال سنتين ومتابعته المقاومة.
لا يواجه الشعب نظاماً وحشياً لا همّ له سوى استعباده وإذلاله فحسب، بل عليه أيضاً الاستمرار في ثورته على الرغم من تآمر المجتمع الدولي عليه. عليه متابعة ثورته على الرغم من الانتهازية الممثلة بالمجموعة الحاكمة في روسيا والغرائز المذهبية التي يستخدمها النظام الإيراني، بشكل مباشر أو عبر العراق ولبنان، من أجل بسط سيطرته على المنطقة. لا يمكن بالطبع تجاهل التواطؤ الاسرائيلي مع نظام يُعتبر بالنسبة إليه صديقاً. فهو نظام أقلّوي يدرك تماماً أن هناك خطوطاً حمراً لا يستطيع تجاوزها.
الأكيد أن مؤسسي البعث ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار كانا ساذجين. كانا ساذجين إلى درجة لم يدرك أي منهما يوماً ما ارتكبته يداه. كانا من السذاجة إلى درجة أنهما لم يستوعبا أنّ الانقلاب العسكري ليس ثورة، ولا يمكن أن يكون كذلك، وأنّ السلطة لا يمكن أن تبقى في يد من يغتصبها إلى ما لا نهاية. لم يمتلكا ما يكفي من الثقافة الديموقراطية والسياسية لاستيعاب أن تغطيتهما الحزبية لما حصل يوم الثامن من آذار 1963 كان بمثابة إدخال سوريا في نفق مظلم قد لا تخرج منه يوماً. أرادا استخدام العسكر بغية الوصول إلى السلطة، فانتهى بهما الأمر ضحية العسكر وضحية مجموعة عسكرية طائفية ثم عائلة معينة احتكرت سوريا في نهاية المطاف.
ما نشهده اليوم في سوريا، حيث يعتبر بشّار الأسد البلد ملكاً له، علماً أنه لم يمتلك يوماً أيّ شرعية من أي نوع كان، هو نهاية رحلة إلى الداخل السوري. تأتي نهاية هذه الرحلة بعدما استمرّت رحلة الهرب إلى الخارج طويلاً وتوّجت بالاستيلاء على لبنان تدريجاً ابتداء من العام 1976 تاريخ دخول القوات السورية إليه تحت غطاء جيش التحرير الفلسطيني.
في موازاة عملية الهروب إلى الخارج التي استمرّت حتى العام 2005، تاريخ انسحاب القوات السورية من الأراضي اللبنانية، بدأت في الثامن من آذار1963 استيلاء طائفة معيّنة على الدولة السورية عبر ثلاثة ضباط علويين هم حافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران. تلت ذلك عملية غربلة داخل الطائفة العلوية وصولاً إلى احتكار حافظ الأسد السلطة في 1970 وصولاً إلى حكم العائلة ابتداء من العام 2000. استطاعت العائلة، مستفيدة من المرض الطويل لحافظ الأسد، تأمين حصول عملية التوريث التي تميّزت بانتقال سوريا البعثية شيئاً فشيئاً إلى تحت الوصاية الإيرانية الكاملة.
في كلّ مرحلة مرّت بها سوريا منذ العام 1963، كانت شعارات البعث الواجهة التي عمل النظام من خلفها لمتابعة عملية تصبّ في إلغاء الدولة المدنية كلّياً وتحويل المؤسسات، مؤسسات الدولة، إلى مجموعة من الأجهزة الأمنية تتحكّم بكل تفاصيل الحياة في البلد.
تحت شعارات البعث، استبعد الضباط السنّة من الجيش، خصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى المدن الكبيرة، أي دمشق وحلب وحمص وحماة تحديداً. وتحت شعارات البعث كان انقلاب الثالث والعشرين من شباط 1966 الذي كان بداية الظهور العلني للمجموعة العلوية في الجيش. وتحت شعارات البعث استُبعد كبار الضباط الذين ينتمون إلى أقليات أخرى، خصوصاً الضباط الدروز وأبناء الطائفة الاسماعيلية.
وفي ظل شعارات البعث تحالف الأسد الأبّ مع سنّة الأرياف، نكاية بسنّة المدن. وتحت شعارات البعث، كان الدخول إلى لبنان بضوء أخضر أميركي ـ إسرائيلي من أجل وضع اليد على مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. والعبارة الأخيرة، التي بين مزدوجين، هي التي استخدمها هنري كيسينجر في تبريره السماح لحافظ الأسد بدخول أراضي لبنان عسكرياً وأمنياً.
تحت شعارات البعث، كانت حرب على البعث الآخر في العراق والسير في ركاب إيران خلال حرب الخليج الاولى بين 1980 و1988. وتحت شعارات البعث اغتيلت مجموعة كبيرة من زعماء لبنان بدءاً بكمال جنبلاط وصولاً الى رفيق الحريري، مروراً بالمفتي حسن خالد ورئيسين للجمهورية هما بشير الجميّل ورينيه معوّض.
تحت شعارات البعث، خرج المسلحون الفلسطينيون من لبنان، لتحل مكانهم، بتسهيلات سورية، ميليشيا مذهبية تابعة لإيران اسمها حزب الله.
كان البعث بشعاراته صالحاً لكلّ الاستخدامات. كم من الجرائم ارتكبت باسم البعث وشعاراته؟
بقيت الحال كما هي عليه طوال خمسين عاماً. كانت هذه الشعارات قادرة على تغطية كلّ أنواع الجرائم والارتكابات داخل الأراضي السورية وخارجها، بما في ذلك جريمة حماة في العام 1982. كذلك، كانت تلك الشعارات غطاء لسياسات، ذات طابع إيجابي، أقلّه ظاهراً، على الصعيد الإقليمي، سياسات لا علاقة لها بالسياسات المعلنة للنظام. الدليل على ذلك، مشاركة الولايات المتحدة في حرب تحرير الكويت. وقد تبيّن أن تلك المشاركة لم تكن سوى غطاء للحصول على موافقة من واشنطن على البقاء في لبنان وارتكاب مزيد من الجرائم في حقّ اللبنانيين وترسيخ الشرخ الطائفي والمذهبي في البلد.
باختصار، قام نظام البعث السوري على الابتزاز. ما لا يمكن تجاهله في أيّ وقت هو أن هضبة الجولان احتلت في العام 1967 عندما كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع، كما كان يتأهّب للانقضاض على رفاقه تمهيداً لاحتكار السلطة في تشرين الثاني 1970. لا تزال الهضبة محتلة إلى اليوم. لم تبذل سوريا ـ الأسد أي محاولة جدّية لاستعادتها لا عبر المفاوضات ولا بالوسائل العسكرية.
كانت شعارات البعث صالحة حتى لتبرير هزيمة حرب الأيّام الستة ثم لاتفاق فك الارتباط مع إسرائيل في العام 1974 بعد حرب تشرين (تشرين الأوّل1973) التي أراد حافظ الأسد توظيفها لمصلحة النظام والاستيلاء على لبنان بدل أن تكون مدخلاً لاستعادة الجولان.
لم يدرك النظام أن عليه أن يتغيّر في اللحظة التي ارتكب، أو شارك في ارتكاب، جريمة تفجير موكب الرئيس الشهيد رفيق الحريري. تلك الجريمة، التي حاول تغطيتها بجرائم أخرى، كانت بداية النهاية للنظام البعثي الذي هو في واقع الحال بعثي عائلي.
ما غاب عن ذهن النظام، أن اغتيال الحريري ثم اضطراره إلى الانسحاب عسكرياً وأمنياً من الأراضي اللبنانية، فرض عليه بدء رحلة العودة إلى الداخل. وهذا يعني أوّل ما يعني الاهتمام بمشاكل سوريا والسوريين. اكتشف متأخراً أبعاد الانسحاب من لبنان. اكتشف ذلك بعدما صار رهينة إيرانية.
في السنة 2013، بعد خمسين عاماً على انقلاب الثامن من آذار، لم يعد السؤال ما مستقبل البعث في سوريا؟ السؤال ماذا ستفعل إيران بسوريا؟ كيف ستتقبل خسارة كلّ هذا الاستثمار في هذا البلد بعدما صارت خسارتها للنظام مضمونة؟ هل تبقى سوريا أم تنتهي مع سقوط النظام الذي جاء به البعث أصلاً وانتهى في مكان له علاقة بكلّ شيء ما عدا بالنظريات البعثية، على رأسها شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. لم تعد المسألة مرتبطة بتوحيد الأمة العربية بمقدار ما هي مرتبطة بإبقاء الطائفة العلوية ملتفة حول العائلة الحاكمة. إنها نهاية تليق بالفعل بالبعث السوري.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00