إذا كان من درس يمكن استخلاصه من نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، فإنّ هذا الدرس يتلخص بأنّ ليس في الإمكان الاستخفاف بأمرين. يتمثّل الأمر الأوّل في أن الرأي العام الإسرائيلي يتأثر بأي توتر يطرأ على العلاقة مع الولايات المتحدة. أمّا الأمر الآخر فيتمثل في أن المقاومة السلمية التي يبديها الفلسطينيون للاحتلال، بعيداً عن العمليات الانتحارية، تنعكس على طريقة تعاطى الجمهور الإسرائيلي عموماً مع اليمين المتطرف الذي يرمز اليه شخص مثل بيبي نتنياهو أو حليفه أفيغدور ليبرمان.
كان متوقعاً حصول تحالف ليكود- إسرائيل بيتنا على كتلة نيابية تضمن لبيبي نتنياهو تشكيل حكومة جديدة تتمتع بأكثرية مريحة. انتهت الانتخابات بتعادل بين اليمين من جهة واليسار والوسط من جهة أخرى. هذا عائد في جانب منه الى استيعاب عدد كبير من الإسرائيليين لخطورة التوتر الذي يشوب العلاقة، بما في ذلك الجانب الشخصي منها، بين رئيس الوزراء الحالي والرئيس باراك أوباما الذي لا يتردد في إبداء انزعاجه من بيبي.
لا يمكن لباراك أوباما، الذي يمثّل أميركا الجديدة التي فيها ناخبون لا يتأثرون بإسرائيل واللوبي الذي تستخدمه للترويج لسياساتها في واشنطن، تجاهل أنّ بيبي وقف صراحة في وجه إعادة انتخابه. أيّد رئيس الوزراء الإسرائيلي علناً بكلّ وقاحة وصلف المرشح الجمهوري الخاسر ميت رومني الذي استخدم اللغة التي يستخدمها اليمين الإسرائيلي في تعاطيه مع عملية السلام والملف النووي الإيراني.
يبدو واضحاً أنّ بيبي، الذي كان يفتخر بأنّه يعرف تماماً كيفية التعاطي مع الأميركيين، فقد البوصلة ولم يستطع استيعاب التغييرات التي تشهدها الولايات المتحدة والتي كان أفضل تعبير عنها وصول رجل أسود الى البيت الأبيض. لم تكن تلك التغييرات حدثاً عابراً بأي شكل، خصوصاً بعد نجاح أوباما في الحصول على ولاية ثانية. أكثر من ذلك، يشير اختيار أوباما للسناتور السابق تشاك هاغل ليكون وزيراً للدفاع دليلاً على أنّ الرئيس الأميركي لم يعد يخشى اللوبي الإسرائيلي في واشنطن. لم يعد المقيم في البيت الأبيض يخشى حتى رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي خصه مجلسا الكونغرس باستقبال استثنائي عندما ألقى خطاباً في مبنى الكابيتول دافع فيه عن سياسته التي تصبّ في تكريس الاحتلال للقدس الشرقية ولجزء من الضفة الغربية.
أدرك الإسرائيليون أن بلدهم لا يمكن الذهاب بعيداً في مواجهة مع الولايات المتحدة. وهذا يفسّر الى حدّ كبير تراجع اليمين في الانتخابات وعدم حصوله على أكثرية مريحة. حصل ذلك على الرغم من استفادة بيبي من غياب أي شخصية ذات وزن في الطرف المقابل أي في أوساط اليسار والوسط. لو كان هناك وجود لمثل هذه الشخصية، لما كان مطروحاً حتى أن يدعو شمعون بيريس، رئيس الدولة، بيبي الى محاولة تشكيل حكومة جديدة كونه على رأس أكبر كتلة في الكنيست (31 نائباً من أصل 120).
لا شكّ أن العلاقة الإسرائيلية مع الجانب الأميركي مهمة بالنسبة الى الانتخابات الإسرائيلية. ولكن يظلّ أيضاً أنّ ما حال دون تمكين بيبي من تحقيق انتصار كاسح اعتماد الفلسطينيين العقل والتعقّل. لا بدّ من الاعتراف بأنّ تراجع حماس في غزة وقبولها بلعب دور شرطي الحدود لإسرائيل تطوّر في غاية الأهمّية. بلعت حماس كلّ شعاراتها، خصوصاً تلك التي كانت تتحدث عن تحرير فلسطين، كلّ فلسطين، انطلاقاً من غزة وانصرفت الى معالجة مشكلتها الأساسية المتمثلة في كيفية تدجين المجتمع الفلسطيني وسلبه من كلّ المظاهر الحضارية، بما في ذلك الانفتاح على العالم. تعلّمت حماس من دروس الماضي في حين عملت حكومة الدكتور سلام فيّاض في الضفّة الغربية ما عليها عمله، أي متابعة السعي الى بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية التي قد ترى النور يوماً. جعلت الضفة الغربية أرضاً غير طاردة لأهلها. وهذا أهمّ ما يمكن عمله في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
كشفت نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة عمق الأزمة التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي الذي يحتاج دائماً الى بعبع كي يتوحّد. لم يقدم الفلسطينيون هذا البعبع الذي كان اسمه في الماضي العمليات الانتحارية التي استفاد منها اليمين الإسرائيلي الى أبعد حدود. الأهمّ من ذلك، أنه باتت هناك قناعة لدى السلطة الوطنية الفلسطينية بأنّ المواجهة مع الاحتلال تخاض في المحافل السياسية وأن مثل هذه المواجهة قد تقود عاجلاً أم آجلاً الى تحقيق الحلم الفلسطيني بقيام دولة مستقلة قابلة للحياة.
صحيح أن الغائب الأكبر عن الحملات الانتخابية في إسرائيل كان عملية السلام. لكن الصحيح أيضاً أنه سيتوجب على أي حكومة إسرائيلية أن تجيب في المستقبل القريب عن أسئلة مرتبطة بالاحتلال وخيار الدولتين في حال تصرّف الجانب الفلسطيني بحكمة وواقعية.
هناك إجماع دولي على أن الاستقرار في الشرق الأوسط جزء لا يتجزّأ من الحرب على الإرهاب. المهمّ اقتناع الفلسطينيين بضرورة دعم هذه المعادلة وعدم ارتكاب حماقات من نوع تشكيل حكومة وحدة وطنية بديلة من حكومة سلام فيّاض وذلك من أجل تأمين مصالحة بين فتح وحماس.
لا قيمة لأيّ مصالحة من دون مضمون سياسي واضح يصبّ في خدمة المشروع الوطني الفلسطيني الذي في أساسه البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. من يريد دولة فلسطينية يبتعد أول ما يبتعد عن المزايدات وعن تجارة بيع الأحلام التي تتقنها حماس وجماعة الإخوان المسلمين عموماً.
هناك حال ضياع في إسرائيل. يفترض بالفلسطينيين أن لا يضيعوا معها، بل أن يسألوا أنفسهم كيفية الاستفادة من هذه الحال التي ساهموا فيها عندما أوقفوا العمليات الانتحارية. هل هناك بديل من متابعة بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية بهدوء يتحدّى الاحتلال في كلّ يوم وساعة؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.