من يتمعن جيّداً في الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل بمهاجمتها اسطول الحرية الذي كان ينقل مساعدات من انواع مختلفة الى قطاع غزة المحاصر يكتشف بكل بساطة ان الهدف الذي حددته حكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع فيها ايهود باراك واضح كل الوضوح. انها تجعل من استعادة قوة الردع الإسرائيلية في مقدم الأولويات. كل ما أرادت الدولة العبرية تكريسه عبر المجزرة التي راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء ان لا شيء يقف في وجه استعادة قوة الردع، بما في ذلك العلاقة بتركيا. بكلام أوضح، تبدو إسرائيل على استعداد للتضحية بعلاقتها التاريخية بتركيا من أجل تأكيد استعادتها لقوة الردع التي اهتزت صيف العام 2006 بسبب الخسائر التي منيت بها في حربها مع حزب الله، علماً بأن تلك الحرب كلفت لبنان الكثير. من يقرأ الرسالة الإسرائيلية جيداً، يكتشف الى أي حد تبدو إسرائيل على استعداد للذهاب من اجل تأكيد انها لا تقبل أي تحرش بها، حتى لو كان ذلك عن طريق سفن مدنية تنقل مساعدات الى غزة وعليها مواطنون من نحو اربعين جنسية مختلفة. كان ملفتا اختيار إسرائيل الاعتداء على البواخر في المياه الدولية وكأنها تريد الاعلان صراحة ان القانون الدولي آخر همومها وانها لا تعبأ سوى بما تعتبره مساً بأمنها واختراقاً له.
هل تنجح إسرائيل في تحقيق ما تصبو اليه؟ الجواب ان حكومة بنيامين نتنياهو والمؤسسة الأمنية، استطاعتا عبر المجزرة التي ارتكبتاها في حق مدنيين، اخراج تركيا من موقع الوسيط بينها وبين العرب وسوريا على وجه التحديد. كيف سترد تركيا على إسرائيل وهل تستطيع جعلها تدفع غاليا ثمن ما ارتكبته في المياه الدولية؟ ان صدقية تركيا تبدو على المحك، كذلك قدرتها على لعب دور يردع إسرائيل ويحد من قدرتها على التصرف كدولة خارجة عن القانون، او على الأصح فوق القانون، لا يهمها سوى تكريس الاحتلال لجزء من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية ولهضبة الجولان السورية، بما في ذلك مزارع شبعا المحتلة منذ العام 1967. وهذه المزارع، هي لمزيد من التوضيح والدقة، ارض لبنانية سيطرت عليها سوريا في العام 1956.
تضع المواجهة البحرية غير المتكافئة تركيا امام تحديات جديدة فرضها اصرارها على التعاطي المباشر في الشأن الفلسطيني خصوصا والعربي عموماً. ما الذي سيغيّره الموقف التركي الجديد على صعيد المعادلة الاقليمية. ذلك ما سنراه في الأيام القليلة المقبلة. سنرى هل في استطاعة تركيا تعويض فقدان العرب توازنهم في ضوء الحرب الأميركية على العراق التي غيّرت الخريطة السياسية للشرق الأوسط وادخلت المنطقة في حال مخاض ونقلت مركز الثقل الاقليمي الى خارج العالم العربي... الى إيران تحديدا؟
ما حصل ليس امتحاناً لتركيا التي قتل الإسرائيليون عدداً من مواطنيها كانوا على سفن اسطول الحرية. هناك تحد إسرائيلي للادارة الأميركية ايضاً. اكدت حكومة نتنياهو انها لا تأبه بردود الفعل الأميركية وبالمجتمع الدولي ككل وحتى بالعلاقات الأميركية - التركية التي ستواجه امتحاناً عصيباً في المرحلة المقبلة. اكدت إسرائيل، عن طريق المجزرة والدم الغزير الذي سال، انها ليست متحمسة لمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع الفلسطينيين، حتى لو كان الوسيط بينها وبينهم الرئيس أوباما نفسه. انه تحد مباشر يرتدي طابعا شخصيا من بيبي نتنياهو للرئيس الأميركي. في النهاية، كل ما اراد بيبي قوله هو انه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في المنطقة.
ولكن ما قد يكون اخطر من ذلك كله ان إسرائيل بمهاجمتها السفن المتجهة الى شاطئ غزة نقلت المعركة الى حيث تريد بعيدا عن المكان الذي يفترض ان تكون فيه. بالنسبة الى إسرائيل، تبدو أي معركة محورها غزة معركة سهلة. تستطيع حكومة نتنياهو الادعاء انها نفذت انسحابا من جانب واحد صيف العام 2005، حين كان ارييل شارون لا يزال رئيسا للوزراء، من كل القطاع كما فككت المستعمرات التي اقامتها فيه. لكن ذلك لم يحل دون استمرار اطلاق الصواريخ من غزة، علما ان تلك الصواريخ من النوع المضحك - المبكي لا اكثر. وكان الرئيس الفلسطيني السيد محمود عبّاس على حق عندما وصف تلك الصواريخ بـالعبثية. الآن، تعمل إسرائيل بكل غطرسة على نقل المعركة الى غزة مجدداً. المعركة ليست معركة غزة وصواريخ غزة والحصار المفروض على القطاع منذ سنوات عدة. المعركة في مكان آخر وذات عنوان مختلف. المعركة هي بكل بساطة وصراحة معركة الدولة الفلسطينية المستقلة التي لن تقوم الاّ بعد زوال الاحتلال عن القدس الشرقية والضفة الغربية. المعركة معركة العودة الى المفاوضات المباشرة استناداً الى مرجعية واضحة. هذه المرجعية هي حدود العام 1967 وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة على رأسها القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في العام 1967.
كيف سيواجه العالم إسرائيل؟ هل من قوة تعيدها الى جادة الصواب عن طريق تأكيد ان المطلوب الخروج من الحلقة المفرغة والبحث عن تسوية بدل الهرب منها. كل ما تفعله حكومة نتنياهو يتمثل في الهرب من التسوية التي لن ترى النور الاّ بزوال الاحتلال. ليس مهما ان تثبت إسرائيل انها قادرة على الردع وانها استعادت قدرة الردع، حتى لو كان ذلك على حساب العلاقات مع تركيا. المهمّ تفادي وقوع العرب والفلسطينيين في الفخ الإسرائيلي والتركيز بدلا من ذلك على الانتهاء من الاحتلال. وقف المفاوضات لا يؤدي الى نتيجة بمقدار ما انه يخدم بيبي نتنياهو الذي لا يريد السماع بشيء اسمه دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
لا شك ان العالم اتخذ على غير عادته موقفا معقولا من المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل. تحدثت غير صحيفة مهمة عن القرصنة التي استهدفت سفنا تنقل مساعدات انسانية الى غزة عليها مئات المدنيين. كيف البناء على هذا التطور؟ هذه مسؤولية فلسطينية وعربية في آن بدل الرهان على تركيا التي قد تمتلك رداً على إسرائيل كما قد تجد نفسها عاجزة عن الإقدام على أي خطوة تساعد في زوال الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.