ثمة حاجة الى صيغة سياسية جديدة تدير الحياة السياسية في بريطانيا. ظهرت الحاجة بعد الانتخابات التشريعية الاخيرة التي جرت في السادس من ايار الجاري. تبين في ضوء النتائج ان الرابح في الانتخابات البريطانية لم يكن رابحا. والخاسر لم يخسر. ومن كان يفترض ان يكون بيضة القبان، استطاع ان يلعب هذا الدور بعد اعلان النتائج وذلك على الرغم من انه تراجع بدل ان يتقدم. حصل هذا التراجع بخلاف ما كانت تشير اليه استطلاعات الرأي العام التي رشحت حزب الاحرار الديموقراطيين بزعامة نيك كليغ للحصول على عدد من المقاعد النيابية يوازي ما سيحصل عليه حزب العمال بزعامة رئيس الوزراء غوردون براون وربما اكثر.
كانت رسالة الانتخابات البريطانية واضحة. لا وقت في المرحلة الراهنة لسياسة تتجاوز حدود الجزر البريطانية. باختصار شديد. تبدو بريطانيا غارقة في هموم بريطانيا وذلك في غياب اي شخصية وطنية قادرة على لعب دور ما يتجاوز الحدود. اوروبا نفسها تبدو بعيدة عن بريطانيا على الرغم من انها عضو في الاتحاد الاوروبي. ليس بين الناخبين البريطانيين من يريد التفكير باي رابط بين بلاده والقارة العجوز. ثمة من يحمد الله على وجود البحر الذي يفرق بين الجزر البريطانية والقارة وعلى ان بريطانيا تحفظت عن العملة الاوروبية الموحدة (اليورو) وحافظت على عملتها الوطنية (الجنيه الاسترليني).
ربما كان هذا هو السبب الذي دفع بالناخب البريطاني يوم السادس من ايار الى ان يخذل نيك كليغ زعيم الاحرار الديموقراطيين الذي برز في المناظرات التي سبقت الانتخابات وتفوق، بالحجة والمنطق معا، على رئيس الوزراء غوردون براون وزعيم المحافظين ديفيد كاميرون. بالنسبة الى الناخب البريطاني، يبدو كليغ شابا استثنائيا يمتلك مؤهلات كثيرة تجعل منه نجما حقيقيا يسطع في سماء السياسة البريطانية في وقت تفتقد الامبراطورية، التي لم تكن تغيب عنها الشمس، شخصية تمتلك جاذبية على الصعيد الوطني.
لكن مشكلة زعيم الاحرار البريطانيين يمكن تلخيصها بأن صعود نجمه جاء في الوقت الخطأ. انه اوروبي الهوى. عاش طويلا في بروكسيل وعمل في اطار الاتحاد الاوروبي. اضافة الى ذلك، ان والدته هولندية وزوجته اسبانية وهو يتحدث الانكليزية والفرنسية والالمانية والهولندية والاسبانية. كان ذلك كافيا كي يفقد الاحرار الديموقراطيون خمسة مقاعد مقارنة مع انتخابات العام 2005 التي ربحها طوني بلير... قبل ان يتخلى عن زعامة حزب العمال وموقع رئيس الوزراء لغوردون براون في العام 2008. لا يريد البريطاني العادي السماع بأوروبا ومشاكلها وحتى بلغاتها، خصوصا ان الازمة الاقتصادية في اليونان تركت اثارها على اليورو وعلى الاقتصاد الاوروبي ككل وسط مخاوف من امتدادها الى اسبانيا والبرتغال.
تحول الجانب الاوروبي في شخصية كليغ الى عبء على الرجل الذي يمتلك جاذبية خاصة ومعرفة بالقضايا الاوروبية والدولية. لكن تراجع حزبه لم يحل دون طرح المشكلة الاساسية التي باتت تعاني منها الديموقراطية البريطانية. تتمثل هذه المشكلة في ان القانون الانتخابي، المبني على الدائرة الصغيرة التي يتنافس فيها المرشحون على مقعد واحد فقط يفوز فيه من يحصل على اكبر عدد ممكن من الاصوات في الدورة الاولى، لم يعد يؤدي الغرض المطلوب. مثل هذا القانون يشجع على التأسيس لنظام برلماني محوره حزبان كبيران. باتت الحاجة الان الى ايجاد صيغة للتعايش بين ثلاثة احزاب بعدما صار كل من الحزبين الكبيرين في حاجة الى الاحرار الديموقراطيين في حال كان يريد تشكيل حكومة لا يسقطها مجلس العموم. ولكن من يضمن ان تؤدي اي صيغة جديدة الى وجود ثلاثة احزاب كبيرة فقط بدل ان تفرّخ احزاب صغيرة تجعل الوصول الى تشكيل حكومة موضوع مساومات طويلة ومعقدة؟
الى اين تسير الديموقراطية البريطانية؟ صحيح انها ليست المرة الاولى التي تسفر الانتخابات عن برلمان معلق، اذ حصل ذلك في العام 1974، لكن الصحيح ايضا ان الاحرار الديموقراطيين، الذين يطالبون بتعديل القانون الانتخابي، ربما سيتمكنون من فرض التغيير الذي يدفعون في اتجاهه. يسعى حزب كليغ الى قانون انتخابي جديد مبني على النسبية. ولكن يبقى السؤال هل سيؤدي تغيير القانون الانتخابي، في حال حصوله، الى استقرار سياسي في بريطانيا ام يقود الى مرحلة من الاضطرابات الداخلية، سياسيا واجتماعيا، على غرار ما كان سائدا في ايطاليا في الماضي القريب حيث لم يكن عمر الحكومة يتجاوز بضعة اشهر؟
الثابت ان البريطانيين يريدون التغيير. ولهذا السبب، لم يتمكن غوردون براون وحزب العمال من الحصول على اكثرية، بل تراجع العمال على الصعيد الوطني بشكل مريع. كذلك انهم يبحثون عن شخصية وطنية يستطيعون الاطمئنان اليها في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها اقتصاد البلد. ولهذا السبب لم يحصل غوردون براون والمحافظون على اكثرية واضحة ومريحة تسمح بتشكيل حكومة. هناك شيء ما ينقص كاميرون. يقارن البريطاني العادي بين شخصية براون او كاميرون بشخصية مارغريت تاتشر او حتى توني بلير فيكتشف ان بلده يخلو في المرحلة الراهنة من شخصية وطنية جامعة وقوية قادرة على حماية البلد من آثار الازمة المالية التي لا تزال تلقي بظلالها على كل القطاعات الاقتصادية والتي تؤرق الغني والفقير في آن...
الثابت ايضا ان بريطانيا تمر في مرحلة انتقالية. سيتوجب عليها التفكير في المستقبل، في مرحلة ما بعد الانتعاش الاقتصادي التي اسست لها مارغريت تاتشر وساعد توني بلير في استمرارها حتى السنة 2008. طوال تلك الفترة، كانت بريطانيا بمثابة لاعب مهم على الصعيد الدولي بالتفاهم مع الولايات المتحدة طبعا. سيترتب عليها بعد انتخابات السنة 2010 الانكفاء على نفسها اكثر فاكثر. ليس صدفة ان الحملة الانتخابية خلت من اي نقاش ذي مغزى لأي موضوع دولي من اي نوع كان. لم يكن هناك كلام لا عن العراق ولا عن افغانستان ولا عن باكستان وذلك على الرغم من التورط العسكري البريطاني الى ما فوق الاذنين في حربين... اميركيتين!









يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.