(٣) المطبخ
زياد سلمي عيتاني*
في زمن العزلة الإجبارية خوفاً من الغزوة الكورونية، وإختصاراً للوقت والمجهود، قررت أن أنقل غرفة الجلوس إلى مطبخ المنزل، طالما أن مفهومنا لمقومات الصمود المنزلي هي أن يبقى جهازنا الهضمي في حركة دائمة، كسباً للمناعة الغذائية القاتلة للوقت، وليس للفيروس، فإذا بالمطبخ في خضم "الزربة" بالبيت يتحول إلى الركن الأكثر إستحواذاً على وقتنا وإهتمامنا من كل أركان المنزل.
وبما أن الإقامة الإختيارية طويلة في المطبخ، فلا مانع من إستغلالها إلى جانب المحافظة على أمننا الغذائي، بأن نقوم بسياحة منزلية داخله، لإسترجاع حنين الماضي وأيام البركة التي كانت تسوده، يوم كان يعج بنشاط وهمة النسوة ربات البيوت الحقيقيات والمدبرات اللواتي كن يحرصن على تحضير كل أنواع المأكل والمشرب بأنفسهن وبنفسهن الطيب، الذي كان يطفي نكهة خاصة على ما يقمن به من "طبخ ونفخ"، إذ كنّ يقضين أغلب أوقاتهن فيه، حيث لم تكن إقامتهن فيه تقتصر على الطبخ، بل أيضاً على الغسيل والكوي، وحتى "الصبحيات" فيما بين الجيران وشرب القهوة وقراءة الفنجان، دون أن تخلو جلساتهن من "تركيب المقلة" الملطفة والتي لا تلحق الأذى بما هنّ غائبات عن تلك الجلسات...
أول ما يستوقفك في سياحتك الإستذكارية في المطبخ، الأدوات والأواني المطبخية التي كانت مستخدمة قديماً قبل أن غزوة البرادات وأفران الغاز و"المييكرويف" وطناجر الضغط
و" الألمونيوم" و "الستانلس ستيل" و"التيفال"والبيركس" وخلاطات "المولينكس" والخفاقات الكهربائية، حيث كانت الطناجر والجاطات والصواني وأدوات التحريك والسكب بأنواع وأحجام مختلفة، كأن تكون مجوفة أو مثقوبة للإستعمالات المتعددة، ومنها "الكبشة" (وهي ملعقة لها تجويف كبير وعميق مع ذراع طويل وتستخدم لأغراض تقليب السوائل والحساء أثناء الطهي)، و"الكاشطة" (وهي عبارة عن شريحة مستوية على شكل مستطيل تقلب بها "الكبة بالصنية" والمعجنبات عند خبزها في حالة إلتصاقها بالأسطح)، وجميعها كانت تصنع من النحاس الأبيض (كانت تبيض كل عام بواسطة المبيض في حديقة المازل).
وأيضاً "القدر" الفخارية للطهي والسكب وحفظ اللبن، وأباريق الفخار لتبريد الماء المغطاة بغطاء قطني مشغول يدوياً، والسكاكين ذات المقابض الخشبية (التي كانت تجلخ من قبل المجلخ النقال كلما ضعفت قدرتها على التقطيع).
وكذلك الأدوات الخشبية كمدقة الثوم والمنخل والملاعق وملقط الغسيل و"الشوبك" الذي كان يستخدم لرّق ومدّ العجين، (كم نلنا به علقة سخنة، بسبب "العفرتة" ونحن أطفالاً)، حيث أن الخبز كان يعد في المنازل من قبل ربات البيوت اللواتي يتولين عجنه بنفسهن وتقطيعه ومده يدوياً، قبل إرساله مع أحد الأبناء إلى الفرن لخبزه، وتكون إجرة الفران إقتطاع عدد من الأرافة.
ومن الأدوات التي كانت المطابخ لا تخلو منها أيضاً والمصنوعة من "التنك" أي الصفيح "المبرشة" الرباعية الجوانب، وقمع الزيت، والمصفاية، وبرميل غلي الملابس.
ولا ننسى "الصاج" (هو إناء مُستطيل كبير "مفلطح" به تحديب خفيف، مصنوع من الحديد، يُحرق بالسمسم حتى يسودَّ ويصير سطحه أملس)، كان يستخدم لقلي كل أنواع المقالي بواسطة السمن الحموي "الحديدي"، (اليوم لم نعد نراه إلا عند بائع الفلافل).
ومن أساسيات المطبخ زمان محمصة ومطحنة البن، فالمحمصة هي إناء معدني دائري من الحديد موصول بيد من حديد، توضع على النار، ويتم تحميص حبوب البن فيها إلى الحد المناسب، وتقلب المحمصة بواسطة اليد مربوطة فيها كي لا تحرق حبات البن. أما مطحنة البن فهي آلة يدوية تصنع من النحاس ولها مقبض محوري وفتحة علوية لإدخال حبوب القهوة أو الهيل المحمصة وفي الأسفل فتحة يخرج منها القهوة المطحونة، وكان الأولاد من يتولى برم المقبض حتى يطحن البن، لأنها عملية شاقة وتحتاج للقوة والصبر.
أما "كيس اللبنة" المصنوع من الخام، كان في ذلك الزمان بمثابة معمل لصناعة اللبنة آنذاك، حيث كان "يروب" اللبن، ويسكب في الكيس ويعلق ليلاً على "حنفية" المجلى حتى صباح اليوم التالي ليصفى منه مصل اللبن، ويتحول إلى لبنة صناعة منزلية ولا أطيب ولا أشهى.
يذكر أن الحليب الذي كان "يروب" لبناً كان يحضر في الصباح الباكر "بياع" الحليب المتجول من مزارع رأس بيروت"، وكان ثمن الرطل الأصلي، غير المغشوش (دون إضافة الماء إليه) ثمانية قروش.
-يتبع: "النملية" و"بابور الكاز".
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي- عضو جمعية تراث بيروت.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.