لم تطو نهاية الحرب الباردة صفحة الحرب العالمية الثانية وما أسفرت عنه. على العكس من ذلك، كانت الاحتفالات بالذكرى الستين لاستسلام ألمانيا أمام الحلفاء مناسبة لنكئ جروح بعضها مرتبط مباشرة بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أدت الى تقسيم أوروبا وطرح سؤال كبير هو الى أين تتجه روسيا؟
في طريقه الى موسكو للمشاركة في الاحتفالات التي أقامتها روسيا يوم 9 أيار للتذكير بأنها كانت شريكاً أساسياً في الانتصار على ألمانيا النازية، حرص الرئيس بوش الأبن على التوقف في ريغا عاصمة ليتوانيا التي كانت مع ليتونيا وأستونيا جزءاً من الاتحاد السوفياتي. بالنسبة الى الدول الثلاث المطلة على بحر البلطيق التي تعتبر أنها استعادت حريتها مع انهيار الاتحاد السوفياتي وليس مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت زيارة الرئيس الأميركي أيضاً مناسبة لتؤكد مجدداً أنها تريد اعتذاراً علنياً من موسكو عن مرحلة "الاحتلال السوفياتي". أكثر من ذلك طالبت الدول الثلاث بلسان المسؤولين فيها بتعويضات من روسيا وأن يأخذ العالم علماً بـ"الجرائم التي ارتكبت باسم الشيوعية". ليتوانيا وحدها تطالب روسيا بتعويضات مقدارها 20 مليار دولار وأقر برلمانها قانوناً بهذا الشأن في العام 2000. وحمل ذلك موسكو على تذكير الدول الثلاث بأن من حقها أيضاً المطالبة بتعويضات نظراً الى أن الأموال التي استخدمت لإقامة بنية تحتية فيها جاءت من موازنة الاتحاد السوفياتي.
ما يمكن قوله في ظل الأخذ والرد بين روسيا من جهة وليتونيا وليتوانيا وأستونيا من جهة أخرى، أن انتهاء الحرب الباردة أعاد فتح ملفات ما بعد الحرب العالمية الثانية بما في ذلك ملف الشكاوى البولندية من روسيا وألمانيا في آن. فإلى إشعار آخر لا تزال بولندا أسيرة الكره الذي يكنّه شعبها لألمانيا باعتبارها الدولة التي سارع هتلر الى احتلالها بعد اطمئنانه الى النيات السوفياتية إثر توقيع معاهدة تفاهم ألمانية ـ سوفياتية، بين وزيري خارجية البلدين في العام 1939. وكانت بولندا ضحية هذه المعاهدة التي أدت الى تقسيمها الى منطقتي نفوذ بين الطرفين السوفياتي والألماني.
من حسن حظ ليتونيا وليتوانيا وأستونيا وبولندا أنها صارت كلها في الاتحاد الأوروبي وصارت ترى مستقبلها في إطار الاتحاد الذي يؤمن أولاً بأن الدول الأعضاء فيه لا يمكن إلا أن تكون ديموقراطية. وهذا يفرض على الدول الثلاث التزام قيم معينة مرتبطة بالتداول السلمي للسلطة والانتخابات والحريات والانفتاح الاقتصادي إلخ... أي القيم التي يعتمدها العالم الحضاري والتي ضمنت لأوروبا الغربية والولايات المتحدة الانتصار في الحرب الباردة. إنه انتصار حرر دولاً عدة من الهيمنة السوفياتية ومكّنها من دخول القرن الواحد والعشرين وهي تتطلع الى مستقبل مشرق والى مرحلة من الاستقرار في ظل مؤسسات ثابتة استطاعت دول ما كان يسمى أوروبا الشرقية بناءها على حساب نظام الحزب الواحد الذي لم يعد قائماً سوى في أماكن معينة مثل الشرق الأوسط.
في عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، استقلت دول وقامت دول جديدة على أنقاض ما كان يعرف بيوغوسلافيا، وحصل طلاق بين مقاطعتين كانتا تشكلان دولة واحدة اسمها تشيكوسلوفاكيا. ومن دون إراقة نقطة دم صار هناك دولتان اسم الأولى تشيكيا والأخرى سلوفاكيا، وكل منهما تنعم بالاستقرار والهدوء. حصل ذلك كله فيما لا تزال روسيا تبحث عن ذاتها أو على الأصح عن أمجادها. إنها الطرف الوحيد الذي يرفض الاقتناع بأن أميركا ترفض أن يكون لديها شركاء في تسيير شؤون العالم. إنها تقبل بشريك موقت من أجل مهمة محددة تختارها للشريك بنفسها. إن روسيا ـ فلاديمير بوتين تتأرجح حالياً بين قبول هذا الواقع ورفضه، ولذلك لم يجد الرئيس الروسي ما يقوله قبل أيام من وصول الرئيس بوش الأبن الى موسكو سوى أن تفكك الاتحاد السوفياتي "كان أكبر كارثة جيو ـ سياسية عرفها القرن العشرين".
يمكن الإتيان بأدلة كثيرة على مدى حيرة روسيا الرافضة حتى الآن لقبول دور الشريك الصغير المنفّذ لمهمات أميركية محددة. وأدت الحيرة في الأسابيع القليلة الماضية الى ظهور تيار داخل السلطة يدعو صراحة الى إعادة الاعتبار الى ستالين. وحمل ذلك استناداً الى صحيفة "لوموند"، مجموعة من الكتاب والمؤرخين الى نشر رسالة في صحيفة "ازفستيا" تحذر من عملية تزوير للتاريخ. ويرى هؤلاء في هذه العملية التي تتضمن إقامة تماثيل لستالين في مناطق معينة، خصوصاً سيبيريا والسعي الى إعادة تسمية "ستالينغراد" الى مدينة فولغوغراد، شتيمة في حق ملايين الأشخاص الذين ذهبوا ضحية الستالينية...
هل يمكن اعتبار إعادة فتح ملفات ما بعد الحرب العالمية الثانية جزءاً من خطة مدروسة تستهدف إخضاع روسيا عبر إفهامها أن لا مكان حتى لميني ـ قوة عظمى في العالم كما لا مكان لمركز استقطاب خارج الولايات المتحدة؟ ما يعطي هذه النظرية بعض الصدقية أن بوتين تساءل رداً على مطالب الدول الثلاث المطلة على البلطيق: "هل بات على روسيا أن تقدم اعتذاراً يومياً الى هذه الدول؟ إنه أمر لا معنى له". قد يكون ذلك صحيحاً لكن ما قد يكون له معنى أن المنطق الذي يحكم العالم هو منطق ما بعد انتهاء الحرب الباردة الذي لا يتحكم به الرئيس الروسي، وهو لا ينطبق على روسيا وأوروبا فقط بل ان اليوم الذي سينطبق أيضاً على الشرق الأوسط ليس ببعيد حتماً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.