دخل توني بلير التاريخ من أبوابه الواسعة. إنه أول زعيم لحزب العمال البريطاني يقود حزبه الى الانتصار في الانتخابات النيابية للمرة الثالثة على التوالي. حصل ذلك في يوم يحمل تاريخاً خاصاً قلّما يتكرر. إنه اليوم الخامس من الشهر الخامس من السنة الخامسة للقرن الواحد والعشرين. لعل هذا اليوم يكون فأل خير على بلير فيكمل ولايته الثالثة على العكس من مارغريت تاتشر زعيمة المحافظين التي اضطرت الى الاستقالة في العام 1990 قبل بلوغ ولايتها الثالثة نهايتها. عوامل كثيرة ساهمت في نجاح بلير، وهي عوامل يفترض أن تكون حافزاً لفهم أفضل لكيفية عمل المجتمعات الأوروبية المتقدمة من داخل بدل الاكتفاء بالتعاطي مع بلدان مهمة مثل بريطانيا بطريقة عفا عنها الزمن ووفق مفاهيم لا علاقة لها بالواقع.
لا بد من الاعتراف قبل كل شيء بأن لعنة حرب العراق ما زالت تلاحق رئيس الوزراء البريطاني القديم ـ الجديد. وقد تبيّن قبل أيام قليلة أنه ذهب الى الحرب خلافاً لرأي المستشار القانوني للحكومة الذي أكد له أن قرار المشاركة في الحرب مخالف للقانون وأن ثمة حاجة الى قرار واضح في هذا الشأن يصدر عن مجلس الأمن، وإنه من دون ذلك تكون الحكومة البريطانية تتصرف خارج إطار الشرعية الدولية.
عرف بلير أن في استطاعته ضرب الحائط بالشرعية الدولية ما دام قرار الحرب اتخذ في واشنطن وما دام الرئيس بوش الابن يعتقد أن لا شيء يمكن أن يزحزحه عن موقفه الذي اتخذ حسب تعبير الظرفاء نتيجة مشاورات بين الرئيس الأميركي ومن في السماء!
باختصار شديد، ربط توني بلير مواقفه السياسية بالموقف الأميركي مظهراً بذلك أنه قادر على المزايدة على المحافظين وعلى مارغريت تاتشر نفسها، مع فارق يتمثل في أن تاتشر كانت وراء دفع بوش الأب، عندما كان رئيساً، الى التشدد مع النظام العراقي عندما ارتكب حماقة غزو الكويت واحتلالها. أما في العلاقة بين بوش الابن وبلير، فإن الأخير ينفذ المطلوب منه أميركياً ولعب في رحلة ما خصوصاً في الأشهر التي سبقت بدء الحرب على العراق في آذار من العام 2003 دور وزير الخارجية الفعلي للولايات المتحدة وراح يجول العالم لدفع مزيد من الدول الى المشاركة في الحرب ولو رمزياً...
أثرت حرب العراق التي تشارك فيها بريطانيا بقوة تأثيراً طفيفاً على شعبية بلير، خصوصاً أن هناك عائلات رفعت صوتها مطالبة بخروج رئيس الوزراء من السلطة. وذهب أحد الأباء من الذين فقدوا ابناً في العراق الى ترشيح نفسه ضد بلير في دائرة سيغفيلد لتأكيد أنه مصمم على الذهاب الى النهاية في المواجهة مع رئيس الوزراء بسبب العراق. إضافة الى ذلك تمرّد عدد من نواب حزب العمال على بلير مشيرين الى أنه يتبع سياسة محافظة أكثر من المحافظين أنفسهم، لكن استطلاعات الرأي العام أظهرت أنه خلافاً لما يعتقد عدد كبير من أهل الشرق الأوسط، جاء العراق في المرتبة الحادية عشرة من اهتمامات البريطانيين وأن نسبة ثلاثة في المئة فقط من الناخبين اعتبرت العراق أولوية بالنسبة إليها.
أثار مناهضو الحرب على العراق ضجة كبيرة، ولكن تبيّن أن نتيجة هذه الضجة تبقى محدودة على أرض الواقع، فما يهم البريطانيين في النهاية هو الضمان الصحي والتعليم ومحاربة الجريمة والحد من الهجرة الى البلد، إضافة الى الاقتصاد والضرائب والنقل العام. وفي هذا المجال أظهر بلير طوال السنوات الثماني الأخيرة أن حكومته امتلكت حداً أدنى من الفعالية. وربما كانت لغة الأرقام اللغة التي يفهمها البريطانيون أكثر من غيرهم. إنهم يدركون أن نسبة البطالة متدنية في بلدهم، كذلك الفوائد على الجنيه الاسترليني. وهذا يعني أن في استطاعتهم الاستدانة وتحسين أوضاعهم المعيشية من دون أن يكلفهم ذلك غالياً!
يعود توني بلير الى السلطة على الرغم من أن غريمه مايكل هوارد زعيم حزب المحافظين وصفه بأنه "كذاب"، وعلى الرغم من أن والد أحد الجنود الذين سقطوا في العراق قال: "فقدت ابني بسبب كذبة" اسمها حرب العراق. ففي النهاية لا توجد أكثرية تريد تصديق هوارد الذي لم يقدم حزبه برنامجاً مقنعاً كما لا توجد أكثرية تريد أن تجعل من حرب العراق قضيتها.
يتطلع البريطاني الى جيبه ويصوّت لمن عرف كيف يكون التلميذ النجيب لمارغريت تاتشر. إنه توني بلير الذي استطاع باسم حزب العمال، الذي وجد أصلاً للدفاع عن قضاياهم، كيف يكون محافظاً أكثر من المحافظين تحت شعار "حزب العمال الجديد". ربما أن السطة تستأهل كل أنواع الاستدارة بما في ذلك جعل حزب العمال البريطاني الى يمين المحافظين. هل من إنجاز أكبر من هذا الإنجاز!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.