إنه أول رئيس غير عربي لدولة يفترض ان تكون عربية. إنه جلال طالباني الزعيم الكردي الذي ناضل طويلاً من أجل نيل أكراد العراق حقوقهم أو أقلّه من أجل نيل قسم من تلك الحقوق. وها هو يحقق حُلم أن يصبح أول رئيس للعراق يُنتخب بطريقة يمكن أن توصف بأنها ديموقراطية. هذا إذا اعتبرنا ان نتائج انتخابات الجمعية الوطنية العراقية كانت ديموقراطية.
حبذاً لو انتخب مسعود بارزاني رئيساً للعراق، ذلك ان مسعود أكثر عروبة من كثيرين من العرب في العراق وخارج العراق، يكفي انه رجل مستقل يمتلك قاعدة شعبية واسعة، ويكفي انه قال في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية الذي عُقد أواخر العام 2002، أي قبل ثلاثة أشهر وبضعة أيام من بدء الحملة الأميركية الهادفة إلى الانتهاء من نظام صدام حسين كلاماً يصعب على كثيرين قوله.
في ذلك المؤتمر الذي رعته الإدارة الأميركية بدعم من ايران، نعم من ايران التي جاءت بالسيد عبدالعزيز الحكيم زعيم "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" إلى لندن ليكون هناك تمثيل قوي للشيعة في مؤتمر المعارضة، في ذلك المؤتمر الذي أقرّ فيه مبدأ الفيديرالية والذي صدر عنه بيان يؤكد ان هناك "أكثرية شيعية" في العراق، قال مسعود بارزاني كلاماً يصعب ان يصدر عن شخص لا يحب العراق كل العراق. تحدث مسعود بارزاني طويلاً عن المآسي التي تعرض لها أكراد العراق وأشار خصوصاً إلى ان عشرات أفراد عشيرته وعائلته قُتلوا على يد نظام صدام حسين. لكنه أصرّ على ضرورة النظر إلى المستقبل وعدم البقاء في أسر الماضي. أصرّ مسعود بارزاني على فكرة التسامح وعلى العيش المشترك بين العراقيين، بغض النظر عن أي قومية أو فئة أو مذهب أو منطقة وبغض النظر عما تعرض له الأكراد وما تعرضت له عشيرته وما تعرضت له عائلته.
لعل أهم ما يرمز إليه انتخاب جلال طالباني رئيساً للعراق، وعلى الرغم من ان هذا المنصب رمزي إلى حد ما، وأن السلطة الفعلية ستكون بيد رئيس الوزراء والوزراء، أي في يد السيد ابراهيم الجعفري، ان الأكراد تعلموا شيئاً من تجاربهم القاسية. تعلموا اولاً ان الحروب الداخلية في ما بينهم ستؤدي بهم إلى الهلاك وتعلموا ان الدخول في مثل هذه الحروب على غرار ما حصل قبل نحو عقد من الزمن عندما أصطدم مقاتلو حزبي بارزاني وطالباني سيجعل كلاً من الحزبين تحت رحمة أطراف خارجية. وحصل ذلك بالفعل إذ اضطر طالباني إلى الاستنجاد بايران التي يعتبر قريباً منها للوقوف في وجه قوات الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي كان قادراً على السيطرة على الوضع لولا الدعم الايراني المباشر لحزب طالباني.
كان ذلك فصلاً من فصول الماضي الذي لا بد من تذكره بغية التأكد من ان أكراد العراق استطاعوا قطع شوط لا بأس به على صعيد تكوين حد أدنى من النضج السياسي. وقد سمح لهم هذا النضج بأن يتصالحوا في ما بينهم أولاً وأن يخوضوا انتخابات الجمعية الوطنية في لائحة موحّدة حصلت على نحو خمسة وسبعين مقعداً من أصل مئتين وخمسة وسبعين في الجمعية، وأدى ذلك إلى إيصال أحدهم إلى الرئاسة.
الآن وقد صار جلال طالباني رئسياً للدولة العراقية، يمكن القول ان أكراد العراق ضمانة لمستقبل البلد، أي انهم ضمانة كي تكون هناك صياغة لدستور عصري أبعد ما يكون عن دستور يؤسس لجمهورية على الطريقة الايرانية تستند إلى نظرية "ولاية الفقيه". والأكيد ان ليس الأكراد وحدهم الذين سيقفون في وجه مثل هذا الدستور الذي ستتولى الجمعية الوطنية إقراره، ذلك ان هناك مجموعات شيعية عدة تعارض قيام جمهورية إسلامية في العراق على غرار ما حصل في ايران.
في كل الأحوال، ان انتخاب جلال طالباني رئيساً للعراق حدث تاريخي على صعيد المنطقة كلها وهو يشير في الوقت ذاته إلى ان الزلزال الذي بدأ بإسقاط نظام صدام حسين ستكون له انعكاسات على الشرق الأوسط، أكثر من ذلك ان الكلام عن الإصرار الأميركي على إعادة تشكيل المنطقة كلام جادّ، فمَن كان يتخيّل ان دولة يفترض ان تكون عربية يمكن ان يرأسها كردي؟ ومَن كان يتصوّر ان صدام حسين سيشاهد من سجنه شخصاً أصدر في حقه حكماً بالاعدام يخلفه؟ ومَن كان يتصوّر يوماً ان العراقيين سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع يتحدون الإرهاب والإرهابيين؟ مَن كان يتصوّر بكل بساطة انه سيكون هناك رئيس منتخب للعراق، رئيس لا يحتاج إلى عشرات آلاف الجثث يدوس عليها للوصول إلى موقع الرئاسة؟ هناك مَن يريد أن يفهم ذلك ويستوعبه فيما لا يزال من لا يريد لا أن يفهم ولا أن يستوعب!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.