يشهد العالم العربي هذه الأيام تطورات كثيرة تصبّ كلها في اتجاه واحد يمكن اختصاره بكلمة التغيير. هناك بلد اسمه لبنان أكد أنه بلد ديموقراطي فعلاً وأن الديموقراطية فيه راسخة وأن اللبنانيين متعلقون ببلدهم الى حد أنهم فهموا أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان محاولة لاغتيال البلد وإلغائه. ما حصل في لبنان هو في حجم الاجتياح العراقي للكويت في العام 1990. الذي كان محاولة لاغتيال الكويت وإلغائها. وكانت النتيجة أن النظام العراقي انتهى يوم ارتكابه ذلك الخطأ القاتل وليس عندما دخل الجيش الأميركي الى بغداد في 9 نيسان من العام 2003. لقد فهم اللبنانيون خطورة ما تعرّض له بلدهم عبر استشهاد رفيق الحريري ولذلك انتفضوا يداً واحدة في وجه الظلم والعدوان مؤكدين تمسكهم بلبنان وطناً نهائياً لهم ولأبنائهم وأحفادهم.
وفي انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في لبنان، هناك أمران أكيدان الأول أن رفيق الحريري كان على حق عندما تلا فعل أيمان بلبنان بقوله إنه "لا يوجد إنسان أكبر من وطنه". أما الأمر الآخر فإن هناك من سيدفع ثمن اغتيال رفيق الحريري الذي يعتبر في النهاية محاولة لاغتيال لبنان. هذا الثمن سيكون غالياً ليس لأن اللبنانيين يصرون على معرفة الحقيقة فحسب، بل لأن المجتمع الدولي أيضاً يريد معرفة هذه الحقيقة ويريد الاقتصاص من القاتل ومن الجهة التي تقف خلفه. تلك الجهة التي تعتقد أن في استطاعتها تدمير بيروت مجدداً واختلاق مشاكل في هذه المنطقة أو تلك، إلا أنها لا تدري أن لا مفرّ من القصاص وأنها كلما اقتنعت بذلك باكراً، كلما كان العقاب الذي سنتلقاه أقل خسارة عليها وعلى أدواتها اللبنانية...
يمكن أن يواجه لبنان أياماً صعبة، إلا أن من الصعب الرهان على عودة الحرب الأهلية في ظل ذلك الالتفاف الذي لا سبق له حول الرغبة في التغيير نحو الأفضل، نحو بلد ديموقراطي بالفعل لا عملاء فيه لهذه الجهة أو تلك بما في ذلك لسوريا الرافضة لأن يكون لديها حلفاء حقيقيون في لبنان من نوع رفيق الحريري وفي مستواه.
ليس لبنان وحده الذي يتغيّر، بل سبقت الحدث اللبناني الذي سيكون له تأثيره على المنطقة كلها، خصوصاً بعدما أسقط الشعب حكومة الرئيس كرامي بكل ما تمثله من تخلّف وإذعان للأجهزة الأمنية السورية واللبنانية، انتخابات في فلسطين والعراق. لقد أظهر الشعب الفلسطيني في تلك الانتخابات التي اختار فيها السيد محمود عباس (أبو مازن) رئيساً للسلطة الوطنية أنه شعب يريد الحياة وأنه ليس صحيحاً أن مقاومته للاحتلال يمكن أن تبرر عزوفه عن الديموقراطية وتخليه عن وجهه الحضاري. كذلك أظهر الشعب الفلسطيني من خلال الانتخابات التي صوّت فيها لشخص يرفض العمليات الانتحارية أنه يريد الانتماء الى العالم المتحضّر من جهة والخروج من العزلة التي فرضت عليه من جهة أخرى. إنه شعب يرفض الجمود والتذرّع بالاحتلال لتفادي الإصلاحات وممارسة الديموقراطية. على العكس من ذلك، أن الإصلاحات تشكل مع الممارسة الديموقراطية الطريق الأقصر للانتهاء من الاحتلال الإسرائيلي، مثلما أن الطريق الأقصر بالنسبة الى سوريا، في حال كانت تريد حقيقة استعادة الجولان، تنفيذ اتفاق الطائف نصاً وروحاً والانصراف الى معالجة أوضاعها الداخلية عبر إصلاحات سياسية واقتصادية هي في أشد الحاجة إليها مستفيدة من تجربة الشعب اللبناني في هذا المجال... تلك التجربة التي تنقلها الفضائيات اللبنانية والعربية الى الشعوب العربية كلها، فصارت جزءاً من وجدانها مثلما صار رفيق الحريري وجدان كل لبناني شريف.
أما الشعب العراقي فإنه أظهر قدرة على تجاوز محنته وعلى التخلّص من إرث نظام صدام حسين بكل ثقله. وكانت الانتخابات فرصة لتأكيد أنه قادر على ذلك وأنه قادر حتى على معالجة الشوائب التي رافقت الانتخابات بما في ذلك المشكلة الناجمة عن تهميش مكوّن أساسي في التركيبة العراقية اسمه السنة العرب. تحدى العراقيون القنابل والرصاص والسيارات المفخخة وشارك ثمانية ملايين منهم في الانتخابات على العكس مما كان متوقعاً، وأثبتوا بذلك أنهم لا يختلفون عن شعوب العالم على الرغم من كل ما عانوه من نظام المقابر الجماعية.
قد يكون هناك من هو على استعداد لتقديم تفسيرات مختلفة لما حصل ويحصل في لبنان وفلسطين والعراق، إلا أن الميل الى التفاؤل يظل هو الغالب، لا لشيء سوى لأن شعوب المنطقة باتت تعرف أن البقاء في أسر عقلية السبعينات والثمانينات سيجر عليه الويلات. انها مرحلة عفا عليها الزمن في لبنان وفلسطين والعراق، مرحلة تفرض على من استوعبها فعلاً القراءة في كتاب آخر، كتاب ما بعد انتهاء الحرب الباردة، كتاب بداية القرن الواحد والعشرين، كتاب الاستفادة من تجربة لبنان الموحد الجديد الذي سار في جنازة رفيق الحريري ليؤكد أنه صحيح أنه لا يزال بلداً صغيراً، إلا أن الصحيح أيضاً أن ثمن تدميره وتدمير عاصمته مجدداً لن يدفعه وحده بل سيدفعه معه، وبأثمان مضاعفة مرات عدة، الذين يراهنون على أن في استطاعتهم الاستفادة من ذلك!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.