8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

الشعب الفلسطيني قال كلمته

تعطي الطريقة التي جرت فيها انتخابات الرئاسة الفلسطينية فكرة عن مدى قوة هذا الشعب الذي عرف كيف يمارس اللعبة الديموقراطية في أحلك الظروف. وأكد في الوقت نفسه تعلقه بالحياة وليس بالموت وذلك عندما صوّت بكثافة لمصلحة السيد محمود عباس "أبو مازن" مرشح "فتح" الذي خاض الانتخابات معتمداً خطاباً سياسياً واضحاً غير قابل للتأويل. لقد قال صراحة، إن عسكرة الانتفاضة جَرَّت الويلات والمآسي على الشعب الفلسطيني وأن صواريخ "القسام" لا تخدم الفلسطينيين وإنما تخدم اسرائيل وارييل شارون.
إذاً، صوّت الشعب الفلسطيني لمصلحة خطاب سياسي واقعي يسعى إلى تسوية معقولة ومقبولة تأخد في الاعتبار التوازنات الاقليمية والدولية. وإن دلت الأرقام على شيء فإنها تدل على أن المرشح المستقل الدكتور مصطفى البرغوثي كان المنافس الجدي الوحيد للمرشح "أبو مازن" وهو حصل على أقل من عشرين في المئة من الأصوات فيما حصل مرشح "فتح" على نحو ثلثي الأصوات وذهبت البقية للآخرين.
كذلك، دلت الانتخابات على أن التنظيمات الفلسطينية اليسارية صارت مهمشة ولم يعد لها وجود فعلي في الساحة السياسية وقد أخذت مكانها "حماس" التي ظهر حجمها الحقيقي من خلال ما مثلته دعوتها إلى المقاطعة. وفي هذا المجال، يمكن القول ان نسبة أربعين في المئة من الناخبين قاطعت الانتخابات، وهذا يعني أن الاقبال على صناديق الاقتراع كان كبيراً جداً خصوصاً في غزة وهو يفوق الاقبال الذي تشهده الانتخابات في أعرق الديموقراطيات، أي في الدول التي لا وجود فيها لنسبة الـ99 في المئة. وإذا أخذنا في الاعتبار العراقيل التي وضعتها اسرائيل أمام الناخبين خصوصاً في القدس، يمكن القول ان "حماس" باتت تمثل نحو 20 في المئة من الشعب الفلسطيني على غرار ما كان عليه الوضع حين كانت المنظمات اليسارية والقومية تسعى إلى أن تكون في مواجهة "فتح". أما نسبة الـ20 في المئة الأخرى من المقاطعين، فهي تعتبر نسبة مقبولة جداً إذا افترضنا أنها تمثل عملياً أولئك الذين ليسوا مستعدين في أي حال من الأحوال للتوجه إلى صناديق الاقتراع. ومثل هذه النسبة أكثر من طبيعية وهي موجودة في كل أنحاء العالم، أي العالم المتحضر الذي تجري فيه انتخابات حقيقية وحيث نسبة نحو 20 في المئة غير مهتمة بكل ما له علاقة بالسياسة أو الانتخابات!
ولكن أبعد من ذلك كله، يمكن القول ان الشعب الفلسطيني قال كلمته وهو لم يصوّت لشخص يعتمد الغوغائية والغموض في خطابه السياسي. على العكس من ذلك، يعتمد "أبو مازن" الوضوح كل الوضوح خصوصاً عندما يتحدث عن ضرورة إعادة ترتيب البيت الفلسطيني والانتهاء من فوضى السلاح التي أوصلت الوضع في قطاع غزة والضفة الغربية إلى ما وصل إليه كذلك يمكن القول ان الشعب الفلسطيني بأكثريته الساحقة يؤيد اعتماد الوسائل الديبلوماسية للتخلص من الاحتلال وهو يرفض العمليات الانتحارية التي جرّت عليه المآسي والتي جعلت المجرم الذي يسمى ارييل شارون يبدو وكأنه الضحية في نظر العالم المتحضر فيما بدا الشعب الفلسطيني الذي يعاني من أسوأ أنواع الارهاب، والمتمثل في إرهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل، وكأنه المجرم الذي يعتدي على آخرين. والواقع ان الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال إنما يقاوم من أجل استعادة حريته والعيش في ظروف تضمن له حداً أدنى من الكرامة مثله مثل أي شعب آخر في المنطقة.
أن يقول الشعب الفلسطيني كلمته وأن يصوّت لمصلحة خطاب سياسي واضح يتحلى بالواقعية، تلك هي خطوة أولى لإبلاغ العالم أن الكرة لم تعد في الملعب الفلسطيني بل صارت في مكان آخر. وليس مستغرباً أن يقول وزير الخارجية الفرنسي ميشال بارنييه عشية الانتخابات الفلسطينية أن "الرئيس بوش يتحمّل من وجهة نظري مسؤولية تاريخية" في مرحلة ما بعد عرفات. ويضيف ان هذه المسؤولية تتلخص بإعادة الفلسطينيين والاسرائيليين إلى طاولة المفاوضات وإنجاح الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة والتشجيع على مفاوضات مبنية على "خريطة الطريق" وذلك بغية "التوصل إلى انسحاب اسرائيلي من الضفة الغربية".
يدعو وزير الخارجية الفرنسية الولايات المتحدة إلى تحمّل مسؤولياتها، فالشعب الفلسطيني قام بما عليه القيام به وبعث برسالة إلى العالم فحواها أنه شعب يحب الحياة ويريد السلام وأنه لا يريد أن ينتحر كما تسعى إلى تصويره المنظمات والحركات التي وقعت في غرام الأكفان. ومن هذا المنطلق، يفترض في الادارة الأميركية مساعدة الشعب الفلسطيني عبر مساعدة "أبو مازن" والحكومة الجديدة حتى لو انبرى المتطرفون من كل حدب وصوب إلى شن عمليات هدفها الوحيد إفشال أي محاولة لمعاودة المفاوضات. فإذا كانت أميركا تريد أن تكون جدية عليها أخذ العلم بأن الرد على المتطرفين من عرب واسرائيليين وغير عرب لا يكون إلا بالدفع في اتجاه استئناف عملية السلام. وبصراحة الكرة في ملعبها وليس في أي مكان آخر.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00