مع اقتراب السنة 2004 من نهايتها، يشهد الشرق الأوسط هذه الأيام تحولات مثيرة في طليعتها الابتعاد المصري عن ايران أو ما يمكن تسميته التباعد المستمر بين القطبين الاقليميين من جهة وبدء الأخذ والرد بين مصر واسرائيل من جهة أخرى.
لا يمكن بالطبع القول ان مصر وبعد ربع قرن على توقيع معاهدة السلام مع اسرائيل، قررت فجأة الدخول معها في علاقات طبيعية، فهذا أمر غير وارد أقله لسبب في غاية البساطة هو ان اسرائيل غير مقبولة في أي بلد عربي. أما الذين يتحدثون عن التطبيع والمخاوف من التطبيع، فهؤلاء يحذرون من وهم ولديهم أجندة من نوع آخر لا علاقة لها بالمصالح العربية بمقدار ما لها علاقة باستمرار حال اللاحرب واللاسلم التي لها انصارها في المنطقة. وأنصار حال اللاحرب واللاسلم موجودون في الجانب العربي والجانب غير العربي في اسرائيل وغير اسرائيل من الدول الساعية الى لعب ادوار أكبر من حجمها في الشرق الأوسط.
ما تفعله مصر، والواقع انها تراهن على تحسن في الموقف الأميركي في اتجاه العمل جدياً على تحريك عملية السلام، يستهدف استغلال العلاقة مع اسرائيل من أجل ألا يكون الانسحاب من غزة مجرد خطوة على طريق استمرار اقامة "الجدار الأمني" وتكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربية. ومن هذا المنطلق، لا بد من توفير دعم أكبر للدور المصري كي يكون هناك دور لهذا البلد العربي الأساسي في اعادة الحياة الى العملية السلمية. واذا كان مطلوباً الحديث عن موضوع الدور المصري بشكل مباشر ومريح، يمكن القول ان ثمة حاجة الى تلزيم مصر قضية الانسحاب الاسرائيلي من غزة، وهو انسحاب سيحصل عاجلاً أم آجلاً، خصوصاً بعدما تبين ان ارييل شارون قادر على السيطرة على تكتل ليكود وقادر على ابعاد كل من يعترض على سياساته ان في شأن الموازنة أو في شأن الانسحاب الأحادي الجانب من غزة.
من واجب الفلسطينيين والعرب دعم الدور المصري في غزة، لا لشيء سوى لأن توفير الأمن في القطاع وضبطه صارا مصلحة عربية وفلسطينية في آن. اكثر من ذلك ان غزة من الأماكن القليلة التي لا تزال مصر قادرة على لعب دور اساسي فيها بعدما أفلت السودان في اتجاه آخر، وباتت الخرطوم تسعى الى حل مشاكلها الداخلية والخارجية في اطار مختلف إما افريقياً وإما بالاتصال المباشر بالولايات المتحدة.
هذه هي خدعة شارون التي لا بد من الرد عليها بموقف عربي موحد يدعم مصر في غزة ويدعو صراحة الى الانتهاء من فوضى السلاح في كل الأراضي الفلسطينية ووضع هذا السلاح في خدمة السلطة الوطنية الفلسطينية. فالمهم في المرحلة المقبلة ان تنصب الجهود على القول لشارون إن هناك بالفعل شريكاً فلسطينياً مستعداً للدخول في مفاوضات حقيقية تؤدي الى قيام دولة فلسطينية في أسرع وقت ممكن. وهذ الأمر ليس ممكناً الا اذا تحولت غزة الى منطقة يسودها الأمان تكون نموذجاً لدولة فلسطينية حضارية وليس منطقة فالتة خطورتها على القضية أكبر بكثير من خطورتها على اسرائيل. وفي هذا الاطار، لا يمكن تجاهل ان الادارة الأميركية لا يمكن ان تتحرك في حال استمرت العمليات الانتحارية أو اطلاق صواريخ "القسام" من غزة، وسيكون رد اي مسؤول اميركي يوجه اليه سؤال عن سبب ترك شارون يمارس ارهابه ان المشكلة ليست في الاحتلال، بل في غياب أي قدرة لدى السلطة الوطنية على بسط نفوذها في المناطق التي تنسحب منها اسرائيل اضافة الى فشلها في القيام بالاصلاحات المطلوبة.
يشكل الدعم العربي للدور المصري في غزة خطوة أولى على طريق تأكيد ان المشكلة في الاحتلال أولاً وأخيراً وان ليس لدى واشنطن أي عذر للبقاء مكتوفة حيال ما تقوم به اسرائيل. ومن الأمور التي لا بد من الاشارة اليها ان تولي كوندوليزا رايس لوزارة الخارجية الأميركية خلفاً لكولن باول يمكن ان يكون من العوامل الايجابية التي قد تدفع واشنطن الى التحرك مجدداً على الصعيد الفلسطيني ذلك ان أبواب البيت الأبيض مفتوحة باستمرار أمامها على العكس مما كانت عليه الحال أيام باول. وتظهر تجارب الماضي القريب ان الرئيس الأميركي، أي رئيس اميركي، لم يندفع في اتجاه تحقيق تقدم في الشرق الأوسط الا عندما كان على علاقة أكثر من قوية مع وزير خارجيته. حصل ذلك في عهد بوش الأب الذي كان وزير خارجيته جيمس بيكر وحصل ذلك مع بيل كلينتون الذي كان قريباً جداً من وارن كريستوفر من مادلين أولبرايت.
مصر تعيد ترتيب أوراقها في المنطقة في وقت تعمل ايران على الاستفادة من الاحتلال الأميركي للعراق ومن الانتخابات لتكون ذات نفوذ واسع في هذا البلد العربي الذي لم يعد معروفاً اذا كان لا يزال كذلك. والأكيد ان ما تقوم به مصر يستحق دعماً عربياً في مرحلة يبدو الشرق الأوسط على أبواب تغييرات كبيرة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.