لا عيب في أن يعتذر السيد محمود عباس (أبو مازن) رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من الشعب الكويتي. على العكس من ذلك، ان "أبو مازن" عندما يقدّم مثل هذا الاعتذار عن خطأ وقعت فيه منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1990 لدى احتلال العراق للكويت، إنما يكبر في عيون شعبه وعيون العرب الصادقين وعيون العالم. والحديث هنا ليس عن الفلسطينيين الذين يحنون إلى صدام حسين وإلى "ممارساته الديموقراطية" و"بطولاته" التي نقلت العراق والمنطقة من كارثة إلى أسوأ، بل عن الفلسطينيين الذين لهم علاقة بالحضارة والعصر. إنهم الفلسطينيون المعنيون فعلاً بالتوصل إلى تسوية معقولة ومقبولة تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة"، دولة يستطيع أي فلسطيني العودة إليها وحمل هويتها، بما يؤمن له حق العودة، بدل المتاجرة بهذا الحق تفادياً لإخراج الفلسطيني من حال البؤس التي يعيش فيها منذ عقود.
أظهر اعتذار "أبو مازن" أنه رجل دولة بالفعل، أي أنه سياسي لا يخشى الشارع ولا ينقاد له. والأهم من ذلك أنه أظهر أن في الإمكان أن تكون هناك قيادة قادرة على اتخاذ قرارات في مصلحة الشعب الفلسطيني بغض النظر عن المزايدات والمزايدين.
كان ياسر عرفات قائداً استثنائياً، كانت له إيجابياته الكثيرة إذ يكفي أنه استطاع وضع اسم فلسطين على الخريطة السياسية للشرق الأوسط. وكانت لدى "أبو عمار" اخطاء لا يستطيع أن يغطي عليها سوى شخص يمتلك مؤهلاته وحجمه السياسي، وبين هذه الأخطاء كانت تجارب الأردن ولبنان والاحتلال العراقي للكويت... وعدم القدرة على التعاطي مع الوضع في الأراضي الفلسطينية بعد العودة إليها بعقلية جديدة، أي بعقلية مختلفة عن عقلية جمهورية الفاكهاني في بيروت خصوصاً بين العامين 1975 و1982.
من حسنات "أبو مازن" أنه قادر على إجراء عملية إعادة نظر بروح نقدية لتجارب الماضي. وبكلام أوضح، ان الرئيس الجديد للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قادر على أن يتجاوز الكلام العام عن تجربتي الأردن ولبنان ليقول أين أخطأت القيادة الفلسطينية في البلدين، وهو قادر على الذهاب إلى أبعد من ذلك في ما يخص الكويت والاحتلال العراقي لهذا البلد، وقد يقول إنه كان من واجب القيادة الفلسطينية التي يعاني شعبها الاحتلال ألا تتساهل في موضوع الاحتلال العراقي للبلد الصغير، كان عليها اتخاذ موقف مما أقدم عليه صدام وذلك منذ اللحظة الأولى لقيامه بمغامراته المجنونة، وإذا كان من كلمة حق تقال في هذا المجال فهي أن "أبو مازن" كان بين القادة الفلسطينيين القلائل الذين دانوا منذ البداية ما قام به النظام العراقي، كما كان من القلائل الذين فضلوا الابتعاد من الأردن عندما كانت القوات الفلسطينية في المملكة الهاشمية وعن لبنان عندما انتقل الفدائيون إليه.
وحدهم الرجال الكبار يعترفون بالخطأ. وحدهم يعتذرون. هؤلاء الرجال يدركون أن لا معنى للمكابرة وأن لا كرامة لأي مسؤول مهما كان صغيراً أو كبيراً في غياب ظروف العيش الكريم لشعبه. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل كان الشعب الفلسطيني استفاد أو خسر لو اتخذت قيادة منظمة التحرير في العام 1990 قراراً من نوع آخر يقضي برفض الاحتلال العراقي للكويت وإدانته؟
كان موقف الشيخ صباح الأحمد رئيس الوزراء الكويتي موقفاً كريماً، ذلك أنه لم يطلب اعتذاراً وهو يدرك في قرارة نفسه أن الكويت التي قدّمت الكثير للشعب الفلسطيني قادرة على التعالي على الجراح. لكن ذلك لم يحل دون إقدام "أبو مازن" على خطوته الجريئة الهادفة إلى تأكيد أن لديه النية الحقيقية لفتح صفحة جديدة مع الكويت، وهذا يعني بكل بساطة أن الرجل في حال انتخابه رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية سيعمل على إعادة مد الجسور الفلسطينية في كل الاتجاهات، وسلاحه الأقوى أنه قادر على اتخاذ قرارات قد تكون غير شعبية في حال اقتناعه بأن هذه القرارات تخدم الشعب الفلسطيني وقضيته بعيداً عن الغوغائية والغوغائيين والمزايدة والمزايدين.
ولكن يبقى أن الامتحان الأكبر لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية سيكون على أرض فلسطين حيث عليه القضاء على فوضى السلاح. لقد نجح "أبو مازن" في سوريا ولبنان ونجح في الكويت، لكن عليه أن ينجح في فلسطين بإقناع كل المنظمات الفلسطينية أن فوضى السلاح ستؤدي بالجميع إلى الهلاك. ومن حسن الحظ انه كان حتى الآن واضحاً في حديثه إلى المنظمات الفلسطينية على رأسها "حماس" بأن تكون البندقية الفلسطينية في أمرة السلطة الوطنية، في حين أن في استطاعة أي تنظيم أن يكون حزباً سياسياً معارضاً. هل مَنْ يريد أن يقتنع بذلك وبأن الرجل يستطيع في النهاية توجيه رسالة إلى مواطنيه يقول فيها إنه عمل كل ما عليه أن يعمله وأنه حاول قدر المستطاع وبات يستطيع أن يستريح مرتاح الضمير بعدما أدى قسطه للعلى... وأن المسؤولية تقع على غيره، على الذين يرفضون الاعتراف بأن اسرائيل لا تواجه بفوضى السلاح، بل بتصرّف سياسي عقلاني يحرمها من الظهور في مظهر الضحية في حين أنها الارهابي الحقيقي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.