كانت لياسر عرفات وجوه عدة. كان بين هذه الوجوه انه مصري الهوى، كما كان يصعب عليه في الوقت ذاته التعاطي مع دمشق التي كانت لديها بدورها حساسية خاصة تجاهه عائدة إلى غياب عامل الثقة بين الجانبين.
أدى ذلك إلى صدامات مباشرة وغير مباشرة بين الطرفين خصوصاً في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد. وإذا كانت الحساسية السورية حيال "أبو عمار" خفت إلى حد ما مع تولي الرئيس بشار الأسد الرئاسة، إلا انه بقي من آثار خلافات الماضي ما كان كافياً لمنع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية من التوجه عبر الأقمار الصناعية إلى المشاركين في قمة بيروت في آذار (مارس) من العام 2002.
كانت المرة الأخيرة التي زار فيها عرفات دمشق قبل نحو خمس سنوات وذلك للمشاركة في تشييع حافظ الأسد، وما يمكن قوله ان تلك الزيارة لم ترتد أي طابع سياسي كما لم تساهم في تحسين مواقع "أبو عمار" في سوريا التي حرصت دائماً على البقاء على مسافة معينة منه. ولم تتقلص هذه المسافة إلا في الأشهر التي سبقت وفاة الرئيس الفلسطيني، والتي تأكد خلالها انه من وجهة النظر السورية لم يفرّط بأيّ حق من الحقوق الفلسطينية الأساسية كما أصرّ على استمرار الانتفاضة التي تحظى بتأييد واضح من دمشق.
الآن، زار من يمكن اعتباره خليفة عرفات دمشق وبيروت. والخليفة هو السيد محمود عباس (أبو مازن) الذي أقام فترة طويلة في دمشق، حيث كان لديه منزل والذي من مميزاته الأساسية انه رفض دائماً ان يكون في لبنان عندما كانت المقاومة الفلسطينية في لبنان، كما رفض ان يكون في الأردن عندما كانت المقاومة في الأردن، أي انه رفض ان يكون جزءاً من الحروب الفلسطينية على غير أرض فلسطين، كما رفض في الأصل فكرة ان تكون المقاومة الفلسطينية من حيث تدري أو لا تدري، بإرادتها الذاتية أو مضطرة، في خضم التجاذبات العربية ـ العربية أو أسيرة النزاعات العربية.
توحي هذه المعطيات التي في أساسها شخصية "أبو مازن"، بأن زيارته لسوريا التي تلتها زيارة للبنان، بأن صفحة جديدة فتحت بين دمشق وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. ولعل العنوان الذي يكمن اطلاقه على هذه الصفحة يتلخص بكلمتي الواقعية والوضوح.
قبل كل شيء دخل "أبو مازن" ومعه رئيس الوزراء الفلسطيني السيد أحمد قريع بيروت من حيث يجب ان يدخلاها أي من بوابة دمشق.
وهذا ينم عن معرفة دقيقة بواقع الحال وبالتوازنات القائمة على الأرض إضافة إلى ان الحركة التي قاما بها تريح دمشق وتجعلها مطمئنة إلى نيات الرجلين.
ما يدفع ايضاً إلى التفاؤل بمستقبل العلاقات السورية ـ الفلسطينية ان دمشق وبلسان كبار المسؤولين فيها تتحدث هذه الأيام عن السلام، مؤكدة ان هذا الخيار خيار استراتيجي بالنسبة إليها وأن المهم معاودة المفاوضات انطلاقاً من حيث توقفت. وبكلام أوضح، على إسرائيل ان تقبل البحث في المشكلة التي بقيت عالقة والتي حالت في الماضي دون التوصل إلى اتفاق بين الجانبين. وكانت تلك المشكلة تتلخص بأن إسرائيل ترفض العودة إلى حدود 4 حزيران 1967، وهذا يعني صراحة انها غير مستعدة للسلام. وكل ما فعلته سوريا الآن إعادة تأكيد ان ارييل شارون كما كانت حال ايهود باراك، ليس في وضع المستعد للسلام وأنه يفضل الاحتلال على السلام وهو يتعامل مع دمشق بالطريقة نفسها التي يتعاطى بها مع الفلسطينيين.
ان انكشاف هذه اللعبة الإسرائيلية وإدراك سوريا انها ليست في منافسة مع الجانب الفلسطيني وإدراك الجانب الفلسطيني انه ليس في سباق مع سوريا، سيسهل بدوره التقارب بين الجانبين. وسيكون هذا التقارب في مرحلته الأولى مبنياً على تبادل المعلومات وتوضيح المواقف على ان يؤدي في مرحلة لاحقة إلى تنسيق فعلي. والواقع يقول ان التنسيق مع "أبو مازن" ممكن لأنه ليس لدى الرجل ما يخفيه بما ذلك قوله انه يقف ضد عسكرة الانتفاضة وأن النضال المسلح ولى زمنه. والأكيد أن استقبال دمشق لمسؤول فلسطيني يصدر عنه مثل هذا الكلام دليل نضج كبير يؤمل أن ينسحب على ملفات أخرى... في لبنان خصوصاً.
يأتي التقارب السوري ـ الفلسطيني في وقته، ليس لأنه مبني على فكرة اعتماد الوضوح والواقعية في عملية السعي إلى السلام فحسب، بل لأن حساسيات الماضي تبدو وكأنها تبخرت ايضاً. انها حساسيات لم تأت بأيّ فائدة لأيّ من الطرفين اللذين باتا يدركان أن إسرائيل كانت الطرف الوحيد الذي استفاد من التناحر بينهما خصوصاً عندما اعتقد كل منهما ان لديه ما يخفيه عن الآخر!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.