8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

ما قد يشفع بكولن باول

كانت مشكلة كولن باول تكمن في انه طائر يغرد خارج سربه.
لكنه استطاع ان يرافق السرب طوال أربع سنوات بعدما اقنع نفسه بأن لا دور آخر له غير تقديم النصيحة لجورج بوش الابن.
إذا أخذ الرئيس بها كان به. وإذا لم يقتنع، يكون أدى واجبه تجاه رئيسه. وهكذا عمل باول رئيس الأركان السابق للجيش الأميركي والمستشار الرئاسي لشؤون الأمن القومي في أواخر عهد الرئيس بوش الاب على الخروج من السلطة بأقل مقدار ممكن من الخسائر إذ حافظ الى حد ما على تميزه عن "صقور" الإدارة من دون ان يصطدم بهم مباشرة. وربما كانت النصيحة الوحيدة التي أخذ بها بوش الابن، وكان مصدرها باول، التمهل قليلاً في الذهاب الى حرب العراق في انتظار غطاء من الأمم المتحدة. انه غطاء لم يتوافر يوماً بشكل صريح. لكن الذي توافر كان قراراً لمجلس الأمن فسرته القوة العظمى الوحيدة في العالم بأنه يسمح لها بشن الحرب خلافاً لرأي معظم زعماء العالم. وعلى رأس هؤلاء الرجل الحكيم الذي اسمه جاك شيراك الذي بقي على موقفه القائل ان لا فائدة من الحرب على العراق. وجاءت الأحداث تؤكد صحة موقفه بدليل ان العالم بعد الحرب على العراق صار أكثر خطورة مما كان عليه قبلها.
كان الفارق بين باول وشيراك ان الأول اختار ان يكون موظفاً في إدارة بوش الابن وليس وزيراً للخارجية، فيما قرر الرئيس الفرنسي ممارسة دوره كرئيس لدولة حضارية اسمها فرنسا وان يقول الحقيقة كما يراها في وجه رئيس القوة العظمى الوحيدة في العالم. صحيح انه لا يمكن مقارنة موقع وزير بموقع رئيس دولة حتى لو كان الوزير وزيراً للخارجية الأميركية، لكن الصحيح ايضاً ان المقارنة يمكن ان تحصل بين رجل ورجل آخر في موقع المسؤولية. هناك رجل اسمه جاك شيراك لا يخشى قول الحقيقة لبوش الابن أو لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير وهناك رجل اسمه كولن باول فضّل الوظيفة على الحقيقة، وكان الأجدر به ان يستقيل عندما تبين له ان كل ما تقدمت به الإدارة يتعارض مع المبادئ التي نذر حياته من أجلها بما في ذلك نظريته العسكرية القائمة على استخدام بلاده كل ما تمتلك من قوة لدى ذهابها الى الحرب.
طبقت هذه النظرية بنجاح عندما كان رئيساً للأركان إبان حرب تحرير الكويت. وفشلت أميركا عندما لم تطبقها في أفغانستان وفي العراق. لا يزال اسامة بن لادن على قيد الحياة في أفغانستان أو في مناطق حدودية باكستانية فيما العراق بسبب عدم استخدام ما يكفي من القوات الأميركية ساحة لقتال مستمر منذ سقوط نظام صدام حسين في 9 نيسان 2003.
لم يستطع كولن باول سوى تمييز نفسه من الآخرين، لكنه يا للأسف الشديد استخدم في مرات كثيرة لتبرير أعمال لا علاقة له بها مثل الترويج في مجلس الأمن لامتلاك العراق أسلحة للدمار الشامل.
ألا يستحق جلوسه في مجلس الأمن لتبرير الحرب وخلفه مدير وكالة الاستخبارات المركزية جورج تنيت (استقال لاحقاً) تقديم اعتذار علني عن الحرب غير المبررة التي خاضتها بلاده. إذا لم يعتذر باول من العراقيين الذين بات بلدهم مهدداً بالتقسيم وبحرب أهلية، فليعتذر على الأقل من أهالي الجنود الأميركيين الذين سقطوا من أجل قضية ليس معروفاً من يقف وراءها باستثناء "صقور" الإدارة الذين وضعوا نصب أعينهم الذهاب الى العراق من أجل إعادة تشكيل الشرق الأوسط لمصلحة الدول غير العربية في المنطقة على رأسها إسرائيل.
لم يقدم كولن باول ولم يؤخر. حاول تبرير مواقفه بأن وظيفة وزير الخارجية تقضي بتقديم رأي الى الرئيس. وأعطى مثلاً على ذلك ما فعله الجنرال جورج مارشال الذي كان وزيراً للخارجية في العام 1948 في عهد الرئيس ترومان. وقتذاك عارض مارشال اعتراف بلاده بدولة إسرائيل التي أعلن بن غوريون قيامها، لكن ترومان لم يأخذ برأيه. اعترض مارشال على الاعتراف بإسرائيل وبقي في منصبه. لكن التاريخ سيذكره بأنه صاحب مبادرات عظيمة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في مقدمها المشروع الذي يحمل اسمه والذي قدمت بموجبه الولايات المتحدة مساعدات ضخمة لإعادة بناء أوروبا التي انهكتها الحرب. فماذا سيقول التاريخ عن باول وهل من مشروع ارتبط باسمه؟
ما قد يشفع بباول ان الخارجية الأميركية في عهد كوندوليزا رايس ستتحول هي الأخرى معقلاً لـ"الصقور" خصوصاً إذا صار جون بولتون نائباً لوزير الخارجية، وهو معروف بأنه كان ممثلاً لـ"الصقور" في الوزارة منذ شغل موقع مساعد الوزير لشؤون نزع أسلحة الدمار الشامل. وما قد يكون أسوأ من ذلك ان تتولى دانيل بليتكا موقع مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. وستأتي بليتكا من "معهد أميركان انتربرايز" إحدى المؤسسات التي يسيطر عليها تيار المحافظين الجدد الذي نظّر لشرق أوسط جديد تكون فيه إسرائيل الدولة المهيمنة القادرة على ممارسة دور القوة الرادعة على الصعيد الإقليمي...
لم يكن خروج باول من الخارجية حدثاً مهماً، لكنه مؤشر الى ما ستكون عليه السنوات الأربع الجديدة من عهد بوش الابن. انها سنوات ستجعلنا نترحم على الرجل الذي أمضى يوم 5 شباط 2003 ساعات في مجلس الأمن يحاول إقناع العالم بأن لدى العراق أسلحة للدمار الشامل تبين لاحقاً انها غير موجودة...

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00