ما لم يقله آرييل شارون قاله أبرز مستشاريه دوف فايسغلاس عن أن هدف إسرائيل من العملية التي تنفّذها في غزة ومن طرح خطة الانسحاب من جانب واحد من القطاع هو "تجميد العملية السلمية" والحؤول دون قيام دولة فلسطينية يوماً. وهذا يعني من وجهة نظر فايسغلاس الذي سبق له أن عمل مديراً لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أن إسرائيل ستتفادى بذلك البحث في قضايا مثل اللاجئين والحدود والقدس. ولم يتردد مستشار شارون في القول إن هذه السياسة الإسرائيلية تحظى بمباركة أميركية.
سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي الى نفي كلام مستشاره الذي يتولى تسويق سياسة شارون في واشنطن وخصوصاً خطة الانسحاب من جانب واحد من غزة. ولم يجد شارون ما يقوله سوى أن حكومته ملتزمة "خريطة الطريق". وأثار ذلك ارتياحاً لدى الإدارة الأميركية! وزير الخارجية كولن باول قال في أثناء زيارة كان يقوم بها لغرينادا إن بلاده لا تشك إطلاقاً في التزام شارون "خريطة الطريق". وذهب مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية الى حد القول إن الإدارة "جدّ راضية عن التوضيحات التي أصدرها مكتب شارون في شأن تصريحات فايسغلاس".
من نصدق؟ من الأفضل تصديق مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي والتصرّف بموجب هذه التصريحات، لسببين في غاية البساطة، الأول أن إسرائيل تعمل كل ما تستطيع لتكريس الاحتلال والقضاء على أي أمل في إقامة دولة فلسطينية، والآخر أن الإدارة الأميركية في غير وارد عمل شيء لجعل إسرائيل تتوقف عن تنفيذ خطة ابتلاع الأرض بدل تنفيذ "خريطة الطريق" السعيدة الذكر. وكان أحدث دليل إلى ذلك، الفيتو الذي استخدمته في مجلس الأمن لمنع إدانة الجرائم التي ترتكب في غزة.
على الصعيد الإسرائيلي، لا بد من العودة الى ما كان يقوله إسحق شامير الذي كان رئيساً للوزراء لدى انعقاد مؤتمر مدريد في آخر تشرين الأول من العام 1991. وقتذاك سئل شامير عن قبول إسرائيل المشاركة في المؤتمر الذي كان يفترض أن يؤدي الى تسوية تستند الى مبدأ الأرض في مقابل السلام، وكان جوابه أن إسرائيل ستفاوض من أجل التفاوض طوال عشر سنوات وستعمل في غضون ذلك لإيجاد أمر واقع جديد على الأرض عبر سياسة الاستيطان. الآن وبعد مرور ثلاثة عشر عاماً على انعقاد مؤتمر مدريد، يمكن القول إن شامير نفّذ ما وعد به... ولكن بواسطة آرييل شارون. حتى شمعون بيريس الذي يعد مراوغاً من الدرجة الأولى يرفض تصديق النفي الذي أصدره شارون لكلام فايسغلاس، وإذ يقول بيريس إن رئيس الوزراء الإسرائيلي خبأ عنه الحقائق ولم يخبره يوماً أن الانسحاب من غزة يستهدف تجميد عملية السلام يضيف: "ان من يسعى الى نصف سلام، فسيأتي بنصف حرب".
هناك إجماع في الأوساط السياسية الإسرائيلية على أن مستشار شارون يقول الحقيقة وأن كل ما يفعله رئيس الوزراء الإسرائيلي حالياً يتلخّص بفكرة التخلّص من تسوية تقوم على فكرة الدولتين. وتشير القراءة الباردة لتعليقات السياسيين الإسرائيليين وما يصدر في وسائل الإعلام الإسرائيلية الى أن شارون استفاد من التطورات الإقليمية، خصوصاً الوضع في العراق ومن سياسة الإدارة الأميركية ومن الفوضى التي تسود الجانب الفلسطيني والتي بلغت ذروتها باللجوء الى صواريخ "القسام" التي تحوّلت سلاحاً في يده، ليقول وداعاً لتسوية على أساس قيام دولتين. إنها فرصة لا تعوّض يستغلها شارون ليقول للعالم إنه بما أن هناك عملية إعادة رسم لخريطة الشرق الأوسط، لماذا لا تشارك إسرائيل في هذه العملية التي تلغي عملياً كل قرارات الشرعية الدولية على رأسها القرار 242 الذي يؤكد رفض الاستيلاء على أرض الغير بالقوة.
أما الإدارة الأميركية فلا يمكن إلا أن تكون مع فايسغلاس وذلك ليس في ضوء استخدامها الفيتو قبل أيام فحسب، بل لأن كل تصرفاتها تدل إلى أنها تكذب كما تتنفس أيضاً. انها إدارة لا تستحي من قلب الحقائق رأساً على عقب بدليل أنها دخلت الحرب على العراق مستندة الى افتراضين تبيّن أنهما غير صحيحين. الأول أسلحة الدمار الشامل والآخر علاقة صدام بـ"القاعدة". والى الآن لا تزال الإدارة تتباهى بحرب جرّت على الشرق الأوسط الويلات ولم تستفد منها سوى إسرائيل.
في النهاية، فعلت إسرائيل ما تشاء بمباركة أميركية. وما لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه هو كلام لمستشار شارون شرح فيه لماذا ترفض الحكومة الإسرائيلية عملية السلام. قال فايسغلاس إن "عملية السلام تعني قيام دولة فلسطينية مع كل ما يتضمنه ذلك من مخاطر وتعني إزالة المستعمرات وعودة اللاجئين وتقسيم القدس، أن كل ذلك مجمد الآن... وما اتفقت في شأنه مع الأميركيين هو أن قسماً من المستعمرات سيبقى مكانه. أما القسم الآخر فسيبحث في أمره حين يصبح الفلسطينيون فنلنديين. هذا معنى ما فعلناه".
الواقع أن ما فعلته إسرائيل بغِطاء أميركي يؤسس لأزمات جديدة في المنطقة، لا لشيء سوى لأن الشعب الفلسطيني حقيقة قائمة على الخريطة السياسية للشرق الأوسط. ومن وجد على الخريطة السياسية لا يمكن إلا أن يكون على الخريطة الجغرافية. إضافة الى ذلك لن يصبح الفلسطينيون يوماً فنلنديين إذ لا أمل لهم بذلك!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.