كم تبدو غريبةً الدعوة الأميركية إلى إحياء "خارطة الطريق"، وكأن الخطة لا تزال حيّة ترزق وكل الأمور تسير على ما يرام استناداً إلى الجدول المتفق عليه. ولم يعد ينقص سوى اجتماع في القاهرة تعقده اللجنة الرباعية للبحث في المرحلة المقبلة على ان يليه اجتماع آخر في نيويورك على مستوى وزراء الخارجية.
هذا على الأقل ما وعد به وليم بيرنز مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط خلال وجوده في القاهرة حيث تصرف من منطلق ان العملية السلمية لا تواجه أي صعوبة وأن الكل ملتزم "خارطة الطريق" التي يفترض ان تقود في النهاية إلى قيام دولة فلسطينية في السنة 2005.
في الحقيقة، ليس مفهوماً ما الذي تحدث عنه بيرنز في وقت كان أول ما فعله رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون قبل أيام في احدى جلسات مجلس الوزراء، مطالبة أعضاء الحكومة بالكف عن الإشارة من قريب أو بعيد إلى "خارطة الطريق". هل طبيعي ان تدعو الإدارة الأميركية إلى تطبيق "خارطة الطريق" قبل التأكد مجدداً من ان الطرف الأساسي المعني بها، أي إسرائيل، لكونها الدولة التي تحتل الأرض وتصادر حقوق الشعب الفلسطيني المطلوب أن تكون لديه دولته المستقلة، موافق على الخطة أو على الأصح لا يزال ملتزماً إياها؟
معروف عن وليم بيرنز الديبلوماسي الهادئ انه رجل موضوعي وصادق يعني كل كلمة يقولها ولا يعد بما لا تستطيع بلاده القيام به. ومن هذا المنطلق أبدى كثيرون من العرب ارتياحهم إلى التعامل معه، واعتبروه مختلفاً عن مسؤولين آخرين في إدارة الرئيس بوش الابن تميزت تصرفاتهم بالعجرفة حتى لا نقول انها كانت أقرب إلى العربدة من أي شيء آخر.
هل من تفسير لهذا الاندفاع الأميركي المفاجئ نحو تسويق "خارطة الطريق" مجدداً في وقت لم تنفذ إسرائيل أي التزام له علاقة من قريب بالخطة السلمية التي وضعتها أوروبا في العام 2002 وقبلتها إدارة بوش الابن في أواخر تلك السنة ثم قدمتها إلى ياسر عرفات، بواسطة الأوروبيين طبعاً، وإلى شارون بواسطة السفير الأميركي في تل أبيب؟
ربما كان التفسير الوحيد لكلام بيرنز وحديثه عن اجتماع القاهرة وعن الاجتماع الآخر في نيويورك على مستوى وزراء الخارجية وعلى هامش دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ان الإدارة الأميركية تسعى في هذا الموسم الانتخابي إلى تمرير الوقت لا أكثر ولا أقل. ولو كانت الادارة جادة لقالت صراحة ان لا أمل في تنفيذ "خارطة الطريق" وانه إذا كان بعض المسؤولية يقع على الجانب الفلسطيني، إلا ان معظم المسؤولية يقع على حكومة ارييل شارون التي اختارت طريقاً خاصاً بها. إنه طريق "الجدار الأمني" الذي يكرّس الاحتلال.
ما يحصل على أرض الواقع، أي على الأرض الفلسطينية ان شارون الذي كان لديه مئة اعتراض واعتراض واحد على "خارطة الطريق" لدى إعلانها ثم قلص هذه الاعتراضات إلى أربعة عشر، لم يعد يتصرف على أساس ان خطة السلام هذه قائمة، إنه يتصرف من منطلق ان لديه خطة أخرى تتمثل في الانفصال من جانب واحد عن الفلسطينيين، وهذه لا يمكن الاعتراض عليها لو كانت تستند إلى خط وقف النار لعام 1967 والانسحاب إلى خلفه، إلا انه لا يمكن إلا رفضها لانها تستهدف تكريس الاحتلال الإسرائيلي لمناطق معينة في الضفة الغربية واخراج القدس من عملية التسوية ومن أي معادلة يمكن ان تبنى عليها تسوية ما شبه معقولة تعيد للشعب الفلسطيني بعض حقوقه التاريخية في الأرض.
لعل أخطر ما في كلام بيرنز ان إسرائيل يمكن ان تستخدمه غطاء في متابعة عملية ابتلاع الأرض الفلسطينية من جهة وانه دليل على ان الولايات المتحدة لم تعد ترى ان إيجاد تسوية في الشرق الأوسط ما زال قضية مهمة وملحة في آن من جهة أخرى.
بعد كلام مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط الذي سبق له وعمل سفيراً في الاردن وقد ينتقل قريباً إلى موسكو، يمكن طرح أسئلة في شأن جدية الموقف الأميركي، أي الجدية في الموقف من الحل في الشرق الأوسط خصوصاً لجهة إقامة دولة فلسطينية "قابلة للحياة" على حد تعبير الرئيس بوش الابن الذي كان أول رئيس أميركي يتحدث عن مثل هذه الدولة.
لقد تقدم الأميركيون لفظياً وتراجعوا عملياً، لذا لا بد من التذكير مرة أخرى بأنه للمرة الأولى منذ ما يزيد على عقد من الزمن لا وجود لمفاوضات جدية بين إسرائيليين وفلسطينيين، ولا وجود لاطار للمفاوضات على غرار ما كان عليه مؤتمر مدريد أو الاتفاق ـ الاطار الذي اسمه اتفاق أوسلو. والأهم من ذلك كله انه لا يوجد أي نوع من الثقة بين الجانبين كما لا وجود لطرف ثالث اسمه الولايات المتحدة يطرح حلولاً تستهدف ردم الهوة بين مواقف الجانبين. كل ما في الأمر ان هناك إدارة أميركية تتحدث عن شيء لم يعد قائماً اسمه "خارطة الطريق" كما لو ان المطلوب شراء الوقت ليس إلا في انتظار حلول 2 تشرين الثاني المقبل موعد انتخابات الرئاسة الأميركية، إذا عاد بوش الابن سيقول انه لا بد من أخذ الأمر الواقع الذي خلفه ارييل شارون والمتمثل في المستوطنات في الاعتبار. وإذا فاز كيري سيجد ان عليه مسايرة إسرائيل للعودة إلى الرئاسة مرة أخرى.
وكل "خارطة طريق وأنتم بخير"!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.