فرنسا، التي تربطها علاقات تقليدية وتاريخية ببلدان المشرق العربي والحريصة على المحافظة على “دور ناشط وفاعل ومؤثر” في هذه المنطقة الحيوية من العالم، جهدت في الأسابيع الأخيرة على التحرك في اتجاهين: الاتجاه الأول؛ من خلال ابقاء التواصل مع وزراء خارجية دول المنطقة (سوريا، الأردن، مصر، السعودية، قطر، الكويت، والبحرين) إضافة إلى إسرائيل. الاتجاه الثاني؛ تفعيل التنسيق مع الجهات الدولية المعنية في مقدمها الولايات المتحدة (مع الموفد الأميركي توم باراك ووزير خارجية الفاتيكان المونسنيور بول ريشار غالاغير) إضافة إلى عواصم دول الإتحاد الأوروبي. وتشير الأوساط المتابعة لملفات المنطقة إلى أنّه بناء على العديد من المعطيات، تكوَّنت لدى باريس توجهات تتناول القضايا المطروحة على أكثر من صعيد. أولاً؛ على الصعيد اللبناني: تُشدّد الأوساط على أولوية اهتمام فرنسا بالموضوع اللبناني بالرغم من تعقيداته وتشعباته الأمنية والسياسية والاقتصادية والمالية. وما يُشجعها على المضي في تحركها حيال هذا البلد “الصديق والعزيز جداً” قيام “فرصة ممزوجة بأمل” ومتمثلة بالتطورات الايجابية المستجدة منذ انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأليف حكومة إصلاحية جديدة والتي يمكن التعويل عليها لاعطاء دفع ضروري من خلال وضع المشاكل الأساسية على سكة الحل وأبرزها موضوع حصرية السلاح وقضية الاصلاحات البنيوية المالية والاقتصادية والمصرفية. وبغية “تجديد” الدعم و”تطمين” الجانب اللبناني على استمرار التزام الجانب الفرنسي، بادرت باريس، وفي هذا التوقيت، إلى استقبال رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام ودعوته إلى المائدة الرئاسية وخصّه بحفاوة لافتة للنظر، كما حرص الرئيس ايمانويل ماكرون على كسر البروتوكول واستقبال سلام، وهو رئيس وزراء وليس رئيس دولة، عند باب السيارة التي أقلته وحمل بيده المظلة لوقايته من المطر!
وهنا تُسارع الأوساط المعنية على تأكيد “التنسيق المشترك الفرنسي-الأميركي” حول المساعي والجهود المبذولة والتفاهم الثنائي حول مختلف القضايا المطروحة مع التشديد على “تكامل الدورين” بين البلدين.
حصرية السلاح
وحول حصرية السلاح في لبنان، هناك إدراك مشترك واعتراف بالتقدم الذي حقّقه الجيش اللبناني في المنطقة الجنوبية برغم قدراته المحدودة مع الجهود القائمة لتعزيزها عدداً وعدة. ولا تنكر الأوساط أن الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة والمدانة لاتفاق وقف النار والعمليات العدائية تزيد في ابقاء التوتر ولا تساعد في التهدئة، من هنا التشاور في كيفية تفعيل آلية لجنة المراقبة إلى جانب تعزيز كل أشكال الدعم للجيش اللبناني لتمكينه من توسيع انتشاره وانجاز المهمات الموكلة اليه. صحيح أن هذه الأوساط تبدي “تفهم” فرنسا للظروف الداخلية الصعبة والمعقدة التي تواجه السلطات اللبنانية على صعيد التريث في رسم الاستراتيجية الواجب اتباعها لتحقيق الانجاز العملي والتنفيذي لقرار حصرية السلاح، إلا أنّها تُسجّل “بعض البطء والتردد والمماطلة” في حسم الخيارات وتدعو إلى الإسراع في تحديد جدول الخطوات التنفيذية. ويرغب الجانب الأميركي، كما تكشف هذه الأوساط، “بالحصول من الجانب اللبناني على تعهد واضح حول الحد الزمني النهائي لتنفيذ قرار حصرية السلاح”. وفي هذا الإطار “الضاغط”، رأت مصادر متابعة أن تلويح الموفد الأميركي توم باراك إلى الحاق لبنان ببلاد الشام شبيه بتلويح الموفد الأميركي السابق إلى لبنان دين براون خلال ما سمي بحرب السنتين بالخيار المتاح أمام اللبنانيين وخصوصاً المسيحيين إما بالقبول بالتدخل السوري أو سلوك طريق الهجرة عبر البحر حيث السفن الاميركية في انتظارهم! خيارات “اليونيفيل” ومؤتمر الدعم والمقصود هنا، توجيه التحذير من أن عدم اعطاء تعهدات صريحة وواضحة حول الالتزام بآلية تنفيذ قرار حصرية السلاح وانجاز الاصلاحات البنيوية، سيدفع الجهات الدولية النافذة وفي مقدمها الولايات المتحدة إلى الابتعاد تاركة لبنان وحيداً في مواجهة الرياح الخارجية والاقليمية. إضافة إلى أنّ هذه الجهات ستتوجه إلى مساعدة دول أخرى محتاجة ومرحبة بكل دعم خارجي وأقربها سوريا التي بدأت تشهد اندفاعة عربية (خليجية) وغربية. أما في ما يتعلق بموضوع التجديد لمهمة القوات الدولية العاملة في الجنوب اللبناني (اليونيفيل)، تؤكد الأوساط أن باريس هي أكثر العواصم حماسة لاعطاء فرصة إضافية لهذه القوات لممارسة دورها خصوصاً وأنها لعبت منذ انشاء هذه القوات “دوراً أساسياً” وكانت بمثابة “أم الصبي” في صياغة قرارات انتدابها وتجديد مهماتها. لذلك تسعى باريس جاهدة في تأمين الدعم المتواصل لهذه القوات لقناعتها بالأهمية الحيوية إلى استمرار بقاء هذا الوجود الدولي على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية.
وحسب الأوساط نفسها، هناك أكثر من سيناريو طرح في الفترة الأخيرة: عدم التمديد؛ استبدال هذه القوات بقوات متعددة الجنسية؛ تحويلها إلى قوة دولية ضاربة عبر وضعها تحت الفصل السابع؛ خفض عددها وميزانيتها؛ تمديد انتدابها مع امكان توضيح مهامها في مقدمات قرار التمديد ولكن من دون تعديلها. ويتردد أن باريس منفتحة على الخيار الأخير من أجل تجاوز المعارضين (إسرائيل) ومحاولة طمأنة المتحفظين خصوصاً الولايات المتحدة التي، ومنذ عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تسعى من جهة لمراعاة الجانب الإسرائيلي ومن جهة أخرى إلى خفض مساهماتها المالية في ميزانيات الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها وآخرها قرار انسحابها من منظمة “اليونسكو” في باريس. بينما تعتبر العاصمة الفرنسية أن استمرار وجود هذه القوات وفي هذا الوقت بالذات “ضروري” ودورها “حيوي” من هنا التزامها الكامل بموضوع التجديد.
أما بالنسبة إلى مسار الإصلاحات الاقتصادية والمالية والمصرفية والقضائية المطلوبة فقد أشارت هذه الأوساط إلى أنها لمست “نوايا جدية وخطوات أولى مُشجّعة” من قبل الحكومة اللبنانية الجديدة إلا أن عجلة تظهيرها واقرارها واطلاقها هي أيضاً “فاترة وبطيئة” ويجب تسريع تبني القوانين المطلوبة خصوصاً المتعلقة بالقطاعين المالي والمصرفي. وهي رأت أنه ما لم تلمس الجهات الإقليمية والدولية المعنية بتوفير تمويل المساعدات قيام “ديناميكية إصلاحية فعلية وشفافة” تعيد الثقة بلبنان، فإن باريس لن تبادر إلى الدعوة لاستضافة مؤتمر الدعم الدولي للبنان المؤجل أكثر من مرة، علماً أن ماكرون لم يلتزم أمام سلام بتحديد أي موعد لهذا المؤتمر الدولي.
ثانياً؛ على الصعيد السوري: صحيح أن الأوساط تشير إلى “القلق العميق والمتزايد” نتيجة توسع رقعة الأحداث المتنقلة من مناطق الساحل السوري إلى ضواحي العاصمة وصولاً إلى منطقة السويداء خصوصاً أن السلطات الانتقالية لم تتمكن بعد من إحكام السيطرة على الأوضاع.
إلا أن اللافت للانتباه أن الجانب الأميركي أبدى أمام محدّثيه ومنهم الجانب الفرنسي “الدعم الكامل” وحتى إشعار آخر لرئيس السلطة السورية الانتقالية أحمد الشرع. ويبدو أن الهدف الأساس الذي تلتقي عليه باريس وواشنطن هو “صيانة الاستقرار” في سوريا وتحصين الوضع والحؤول دون تفكك المجتمع السوري مع تلازم الحرص على حفظ الوجود الآمن لجميع المكونات الطائفية والعرقية وضمان حقوقها والتعامل معها من خلال تفعيل الحوار الوطني وترسيخ وحدة البلد. وبدا الدور الاميركي الحاسم واضحاً وجلياً في الأحداث الأمنية الأخيرة، ذلك “أن تغريدة واحدة من قبل المبعوث الأميركي كانت كافية لاطلاق صفّارة نهاية المواجهات والاشتباكات”. واعتبرت هذه الأوساط أن الإعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على السيادة السورية والتدخلات المتعددة الأوجه تندرج في إطار “استراتيجية الرسائل النارية” التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية من خلال بناء “حزام أمني عسكري وأمان بشري ومناطق عازلة على طول حدودها المشتركة مع جيرانها بهدف ابعاد أي خطر وجودي على شعبها”. وتفادياً للتصعيد، جهدت باريس وواشنطن كل من جهتها في مساعي التهدئة وتفعيل الحوار بين الجانبين السوري والإسرائيلي وتجلى ذلك باللقاء الذي جمعهما في باريس برعاية الموفد الاميركي توم باراك. ثالثاً؛ على الصعيد الفلسطيني: أجرت باريس بالشراكة مع السعودية عدة محاولات لتسريع مسار “الحل القائم على الدولتين” والهادف إلى تأمين الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لكن محاولاتها لم تتكلل بالنجاح وآخرها محاولة عقد لقاء على مستوى القمة في باريس في منتصف تموز/يوليو الحالي. وبسبب هذا الفشل استعيض عنه بلقاء على المستوى الوزاري في نيويورك يعقد قبل نهاية هذا الشهر يومي 28 و29 تموز/يوليو من الشهر الحالي. وستكون مهمة هذا المؤتمر، كما تقول الأوساط، “اعدادية وتحضيرية بهدف اعادة اطلاق الديناميكية الجماعية المطلوبة في اتجاه التوصل إلى الحل السياسي المطلوب”. وترى هذه الأوساط أن التسوية المنشودة يجب أن تأخذ في الاعتبار المستلزمات الأمنية لإسرائيل وديمومة قيام الدولة الفلسطينية والحاجة إلى تطبيع العلاقات السلمية على المستوى الاقليمي. وحسب المصادر المتابعة، فإن المساعي المبذولة تجاه الدول المترددة لحثها على الاعتراف بالدولة الفلسطينية مقابل السير في مسار التطبيع لم تُحقّق التقدم المطلوب، لذلك يتم التعويل على الاستفادة من عامل الوقت لتوفير شروط النجاح للقمة المتوقعة في نهاية أيلول/سبتمبر المقبل بمناسبة انعقاد الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك. ويندرج اعلان الرئيس ماكرون عن قرار فرنسا بالاعتراف الرسمي بقيام الدولة الفلسطينية خلال انعقاد الجمعية العامة في اطار مبادرة لحث الدول المترددة على الاقدام على اتخاذ مثل هذه الخطوة. لكن الغموض والحذر ما زالا ملازمين لمسار يصطدم بالموقف الأميركي المعارض بشكل حازم لمسار الدولة الفلسطينية. وتخلص هذه الأوساط للقول إن الأوضاع التي تجتازها دول المنطقة هي من “أدق المراحل وأخطرها وينبغي التعامل معها بواقعية والتحلي باليقظة ودون انكار أو تذاكي مع الوعي بحجم التحولات والمتغيرات والتي تجعل العودة إلى الوراء شبه مستحيلة وأن الفرص المتاحة لن تتكرر”.