أخبار لبنان

مَصْرَفٌ أم "مصرف"؟!‏

تم النشر في 3 تموز 2023 | 00:00

رشيد درباس





عندما تطغى الدولة الرديفة على ‏

الدولة الرسمية، تفشلان معًا.‏‎

د. أنطوان مسّرة



‏ قبل هزيمة 1967، كان توافق عربي على أن لبنان دولة ‏مساندة في الصراع العربي الإسرائيلي؛لكن ذلك لم يحجب ‏دورهالريادي في خدمة القضايا القومية، فكرًا وصحافة وفَنًّا، ‏حتى إنه كان مضافةً للمناضلين العرب، تَكَوَّن وَعْيُ بعضِهم ‏في جامعاته، ولاذ به آخرون ملتجئين إليه أثناء سلسلة ‏الانقلابات التي سادت المنطقة في ذلك الحين.بل إن حذر ‏الدولة الرسمي إزاء الخلافات العربية العربية مضافًا إلى مناخ ‏الحرية والنظام المصرفي المتطور، عاد على الشعب اللبناني ‏بخير ونمو، فشهد لبنان هجرة اقتصادية ومالية هربت من ‏قوانين التأميمفي الإقليم،وصبت خبراتها وأموالها واستثماراتها ‏في دورةٍ اقتصادية مزدهرة، ترعاها قوانين متطورة تضمن ‏الودائع وتبيح حرية نقل الأموال من غير رقابة. وبعد هزيمة ‏‏1967 تبدل المشهد رأسًا على عقب، لا في لبنان وحده بل ‏على امتداد العالم العربي، وراجت فكرة الحرب الشعبية بدلًا ‏عن ضائعِ الجيوش المهزومة،من غير أن نفطن يومذاك إلى أن ‏خسارة الحرب كانت لعلةِفشل أنماط الحكم التي لم تُعدَّ للمعركة ‏دولًا قوية باقتصادها وبنظمها السياسية، بل اكتفت "بخطاب ‏الانتصار" الذي فُرِضَ على الوجدان العام، فلما وقعت ‏الواقعة، رفضنا دراسة أسبابها، ورحنا نبحث عن "حلول ‏سريعة" متلهفة، فكان ذلك سببًا إضافيًّا في تفاقم الخسائر ‏وتماديها عبر السنين.‏

في ذلك الوقت انبرى الرأي العام لتحميل الجيوش ‏مسؤولية نكسةٍ حَقَّت بالدرجة الأولى على الأنظمة التي ‏حجرت على الديمقراطية، ومنعت المحاسبة وسلمت الأمور ‏لبيروقراطية مترهلة بليدة؛وبدلًا من موقف عربي يستثمر نتائج ‏حرب "أكتوبر"، ذهبنا فرادى إلى مفاوضات متساهلة حققت ‏لإسرائيل مكسبها الأكبر، وهو خروج مصر من الصراع ‏العربي الإسرائيلي، ففقد توازنه، وثقله وارتكازه، ثم راحت ‏بقية الدول العربية، كل على طريقتها، تبحث عن "توازن ‏استراتيجي" مع العدو، طغت عليه اللفظية الظاهرية، فيما ‏كانت المباحثات الخفية أو العلنية تفتش عن "كامب دايفد" ‏آخر.‏

من هذه النقطة كان التجاذب بين الأنظمة العربية ومنظمة ‏التحرير التي لم تجد لها موئلًا، بعد "أيلول الأسود" وانهيار ‏العلاقة مع سوريا، إلا لبنان الذي كان قد وقع في فخ"اتفاق ‏القاهرة".مذّاك بدأت الدولة اللبنانية تفقد تدريجيًّا احتكارها ‏للسلطة، إلى أن سادت الازدواجية التي انتقلت إلى ازدواجية ‏أكثر صرامة بعد خروج المقاومة الفلسطينية وسيطرة الجيش ‏السوري على نظام الحكم اللبناني المختلف كليًّا عن نمط الحكم ‏السوري، حتى صرنا إلى "نظام ديمقراطي شكلي"، أدارته ‏مخابرات دولة القائد الواحدالتي تدخلت في الشاردة والواردة، ‏بدءًا من تسمية الرؤساء مرورًا بتشكيل الحكومات وصولًا إلى ‏تعيين الموظفين.‏

ظن الرئيس رفيق الحريري أن العلاقات السورية ‏السعودية الطيبة،تمنحه فرصة الاستثمار في مشروع إنمائي لا ‏يصطدم مع التوجه السوري خارجيًّا، فخاب ظنُّهُ وظَنُّنا، يوم ‏جرى نسفه في عقر بيروت، إذ كانت الجريمة عنوانًا لموقف ‏أساس، مفاده عدم السماح للدولة باسترداد ذاتِها وترميمِ ‏مؤسساتها واقتصادها. وعندما كانت 14 آذار 2005 شرارة ‏خروج الجيش السوري في لبنان، انتقلت الازدواجية إلى سلطة ‏حزب الله، كبديل داخلي أكثر فعالية و"مشروعية" من الهيمنة ‏السورية.‏

‏ حيال الواقع الجديد الذي تكيفت معه القوى السياسية ‏بشكل أو بآخر، بدأ تراجع النمو في العام 2011، واختل ميزان ‏المدفوعات اختلالًا غير مسبوق، وآلت ملاءة البنك المركزي ‏من العملات الصعبة إلى السلبية وأصبحت المطلوبات تفوق ‏الموجودات، إلى أن وجدنا أنفسنا في حالة ضنك اقتصادي، ‏مردّه أن القبضة السياسة المسيطرة لا تعير اهتمامًا لمستلزمات ‏العافية الاقتصادية التي تتمثل أولًا وأخيرًا بضرورة انتهاج ‏سياسة خارجية غير مرتهنة لمحور ما، واعتماد سياسة داخلية ‏تقوم على أحكام الدستور والحوكمة ومراعاة التوجهات ‏السياسية للمجموعات والأحزاب.‏

هذا التشخيص العاجل من شأنه أن يضع النقاط على ‏الحروف فيما لو تيقَّن الوجدان العام أن لا بديل عن ‏وحدانيةالسلطة. أما أن يستعصم فريق بقوته وانخراطه في ‏مشاريع تتخطى حدوده ومصالح الدولة، ويذهب فريق آخر إلى ‏التلويح بالطلاق، منصرفًا إلى إعداد "الدراسات" والمشاريع ‏الملونة بالألوان الطبيعية لأنواع الفدراليات غير الطبيعية، فهذا ‏يعني أن الأزمة آيلة إلى موعد بعيد، مرهون بما ستسفر عنه ‏المصالحة السعودية الإيرانية، وربما الانتخابات الأميركية، ‏التي يتوقف على نتيجتها مصير تسوية المسألة النووية.‏

بعد المباحثات التي أجراها الموفد الرئاسي الفرنسي، تبين ‏جليًّا أن الاستعصاء الداخلي لم يزل في ذروة التعقيد، لأن كل ‏فريق يطالب بالحد الأقصى الذي لا تراجع فيه، إلا إذا توصل ‏الرعاة الإقليميون والدوليون إلى خلق مساحة نزيهة لتفاهم ‏واقعي وحوار متكافئ.‏

وفي الأسبوع الماضي،برغم تصويت نواب اللقاء ‏الديمقراطي للوزير جهاد أزعور، لفتني أن الرئيس السابق ‏للحزب الاشتراكي وليد جنبلاط عاد للتأكيد على أهمية الحوار ‏الداخلي، رغم إدراكه لمصاعبه، وذلك لأنه الأكثر خبرة ‏وإدراكًا بالعوامل الخارجية التي وضعت لبنان في الدوامة ‏الدموية والانهيار الاقتصادي. وهو يعرف كثيرًا، أن "تقاطعًا ‏واسعًا" إقليميًّا ودوليًّا، رضي لهذه الدولة الصغيرة والحساسة ‏أن تكون ساحة الصراعات ومصفاة لها ومصرفًا للأزمات؛كما ‏حدث يوم انعقد القبول الدولي بالسيطرة السورية على لبنان ‏كله ثمنًا لانضمام النظام السوري إلى تحالف تحرير الكويت، ‏وكما يحدث في ظل بقاء لبنان حاجةً للحفاظ على سخونة ما مع ‏العدو الإسرائيلي الذي بات يَبْتَرِدُفي مياه دول عربية أنجز ‏معها المصالحات، فيما يستشرس في قمع الفلسطينيين الذين ‏يعانون الأَمرَّين في ظل خيمة "أوسلو" المثقوبة.‏

كلٌّ بَحَثَ عن حلِّه الفردي ودفع دولة المساندة لتصبح ‏دولة المواجهة الوحيدة في أقسى الظروف السياسية ‏والاجتماعية والاقتصادية التي أفقدتها المناعة الوطنية، بحيث ‏تصدعت الوحدة الداخلية وراحت كل فئة تبحث عن خلاصها ‏الخاص، ولو أدى ذلك إلى العودة لنغمة التنصل والفدرالية. ‏

من هنا، أجد أن اتهام "الفدراليين" و"الاتحاديين" بالعمالة ‏والصهيونية غيرُ منصف ولا مجدٍ رغم غُلُوِّهم، لأن من شأنه ‏أن يزيد في الانقسام الراهن، ولأن من حق هؤلاء، بل من حق ‏الشعب اللبناني كله، إجراءَ إعادة نظر بالسياسات المتبعة منذ ‏اتفاق الدوحة، بل منذ إنجاز التحرير، فهي على وجاهة حمايتها ‏للحدود الجنوبية برعاية "اليونيفل"، تسببت في تسييب باقي ‏الحدود، وفي انفتاح البحر أمام هجرة الموت الجماعي غرقًا، ‏وفي تصدع الخطاب الوطني، وفي انهيار الاقتصاد، وفي دفع ‏كثيرين إلى البحث عن الخلاص المغشوش، كَمَثَلِالمستجير من ‏الرمضاء بالنار، وهذا بحد ذاته مدعاة للتبصر والتنبه ‏والتصويب، لا إلى النبذ والاتهام.‏

‏ لم أكن أسرد التاريخ بل أسترجعه، لاستخلاص عبر ‏كثيرة، منها أن البلد المتعدد الطوائف ليس بلدًا متعدد الجنسيات ‏أو الثقافات كما زعموا، وأن انتظار الحل الخارجي قد يتأخر ‏عن وقوع الانحلال الكلي، وأن قوة المقاومة لا تكمن في ‏استقلالها وتفردها وسيطرتها، بل في اندماجها بالدولة ‏واكتسابهاللحماية الشعبية، وأن الحل المحلي، أقلُّ كلفة وأقرب ‏موردًا وأكثر نجاعة، وأن الحضرة السياسية لا تخلو من ‏شخصية غير خلافية تسترد الدولة من تشتتها لتكون ضمانة ‏للفرقاء كلهم. إن رهن الاستحقاق الرئاسي بوسائل الاستعصاء، ‏يفقد الدولة حقها باسمها، لأن أنتربولوجيا الدساتير والقوانين ‏تقوم على مبدأ حماية المواطنين كلهم، ضعفاء وأقوياء، كما ‏قال الدكتور أنطوان مسرة، وعلى كل من يريد أن يحكم، أن ‏يحترم ذلك المفهوم، بالخروج من الثنائية الصلبة، والثلاثية ‏الهشة، إلى إعادة الاعتبار للدولة ككيان يؤمن مصالح ‏المواطنين، وإلى التشبثبمفهوم لبنان الكبير الذي أراده مؤسسوه ‏شرفة حضارية ومناخ ديمقراطية وموئل علم ومنزه فن، ‏ومطبعة، وصحافة حرة، ومصرفًا لأغنى المودعين في العالم، ‏لا "مصرفًا" لنفايات النزاعات القريبة أو البعيدة.‏

بمناسبة ما جرى في روسيا من تمرد صاحب شركة ‏‏"فاغنر" على الرئيس بوتين، نتذكر أن الحرس القومي الذي ‏أسسه حزب البعث في العراق،اصطدم مع الجيش العراقي، ‏وهذا يحدث الآنبين الحشد الشعبي والحكومة العراقية،كما ‏نتذكر أن سرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت الأسد اشتبكت ‏مع الجيش السوري التابع لحافظ الأسد، وأن كثرة الجيوش في ‏ليبيا تحول دون توحد هذه الدولة الغنية، وأن صراع ‏‏"البرهان" و"حميدتي" يقضي على ما تبقى من أهميةٍ للسودان ‏الذي أفقده الاستبداد جنوبه، وجفف خصوبته، وأخضعه للصلح ‏مع إسرائيل، وها هو الآن يؤهله لصراعات قبلية لا تنتهي.‏