أخبار لبنان

في العودةِ السلامة

تم النشر في 24 حزيران 2021 | 00:00

سجعان قزي - جريدة النهار ‏



نتّفقُ والمجتمعُ الدوليُّ على اعتبارِ النازحين السوريّين عِبئًا على لبنان (المشكلة)، ‏ونَختلفُ وإيّاه على عودتِهم إلى بلادِهم (الحلّ). في يومٍ واحدٍ، 20 حزيران ‏الجاري، زَعمَ جوزف بوريل ممثِّلُ الاتحادِ الأوروبيِّ، أنَّ "النازحين السوريّين لا ‏يُشكّلون مشكلةً اقتصاديّةً في لبنان وأنَّ عودتَهم إلى بلادِهم مرتبطةٌ بإبرامِ الحلِّ ‏السياسيِّ في سوريا". وأعلن الرئيسُ الأميركيُّ جوزف بايدن أنَّ "عددَ اللاجئين ‏والنازحين فاقَ 82 مليونًا في جميعِ أنحاءِ العالم، واقترح إعادةَ توطينِهم في بلادِ ‏الاستضافَة". وقَبلَهُما صَدرَ تقريران: واحدٌ سنةَ 2016 عن الأمينِ العامِّ السابق ‏للأممِ المتّحدةِ بان كي مون؛ وآخرُ هذه السنةِ عن الأمينِ العامِّ الحاليّ أنطونيو ‏غوتيرس، يَـحثّان فيهما الدولَ المضيفةَ على "دمجِ النازحين واللاجئين في ‏مجتمعاتِها وصوًلا إلى تجنيسهم".‏

واجبُ دولةِ لبنان ـــ أين هي ــــ أن تَكِسرَ هذا المنطقَ التآمريَّ الذي، إنْ تَحقّقَ، ‏يُدمِّرُ لبنانَ نهائيًّا. طبعًا، لا يستطيعُ لبنانُ كسرَ هذا المنطِق في كلِّ العالم، لكنَّ ‏رئيسَ الدولةِ العماد ميشال عون مدعوٌّ إلى أنْ يَقرُنَ الأقوالَ بالأفعال، ويُنظِّمَ، من ‏خلالِ المؤسّساتِ الإنسانيّةِ والأمنيّةِ، عودةَ النازحين السوريّين إلى الحدودِ السوريّةِ ‏بمنأى عن موقفِ المجتمعَين العربيِّ والدُوليّ، وإلّا تكونُ المطالبةُ بعودتِهم "رفعَ ‏عتَب".‏

مِمَّ يَخافُ لبنان؟ من العقوباتِ؟ فقد صَدرت. من الانهيارِ؟ فقد حَصَل. من الفَقرِ؟ فقد ‏انتشَر. من وقفِ المساعدات؟ فقد توقّفت. لا يُرَدُّ بالسكوتِ والتراجعِ على المؤامرةِ ‏الدوليّةِ الراميةِ إلى توطينِ النازحين واللاجئين، بل بالمواجهةِ وخلقِ أمرٍ واقعٍ ‏معاكِس. وما إِنْ يبدأُ لبنانُ بجمعِ النازحين وترحيلِهم إلى بلادِهم بسلطةِ القانون، ‏حتّى نرى الدولَ تَهرعُ إلى الاستلحاقِ والالتحاقِ بالخُطّةِ اللبنانيّة، فتستقبِلُهم في ‏سوريا عِوضَ أن تُثــبِّــتَهم في لبنان. المجتمعُ الدوليُّ جبانٌ، فلا نَكونَنَّ مثلَه.‏

الخطورةُ في الأمر أنَّ الأممَ المتّحدةَ، بدعمٍ عربيٍّ ودوليٍّ، وبتواطؤٍ مع عددٍ من ‏الجمعيّاتِ غيِر الحكومّيةِ اللبنانيّةِ والأجنبيّة ‏ONG‏ ، تُقدِّمُ عَملَها في لبنانَ نموذجًا ‏لنجاحِها في إدارةِ شؤونِ مليونٍ ونِصفِ مليونِ نازحٍ في بقعةٍ صغيرة. هذه ساديّةٌ ‏غيرُ إنسانيّةٍ. ويقومُ الطاقَمُ الدُوليُّ التابعُ للمفوضيّةِ العليا لشؤونِ اللاجئين ‏السوريّين" ‏UNHCR‏ بإعطاءِ محاضراتٍ في نيويورك وجنيف وبروكسل وغيرِها ‏حول "التجربةِ اللبنانية". هكذا، بعدَ أن أردْنا لبنانَ نموذجًا للتعايشِ ‏المسيحيِّ/الإسلاميّ، حَوّلتْه الأممُ المتّحدةُ نموذجًا للتعايشِ بين المواطنين اللبنانيّين ‏والنازحين السوريّين.‏

إن مقاربةَ موضوعِ النازحين السوريّين في لبنان من زاويةٍ إنسانيّةٍ فقطـ، هو خطأٌ ‏استراتيجيٌّ وتكرارٌ، بدونِ تصحيحٍ وتنقيحٍ، للخطأِ الذي سَــبقَ وارتكـــبَــه المجتمعُ ‏الدولي ذاتُـــه في مَـــلفِّ اللاجئين الفلسطينيّين. فالنزوحُ السوريُّ في لبنان هو أزْمةٌ ‏سياسيّةٌ ووطنيّةٌ قبلَ أن يكونَ أزمةً إنسانيّة، إذ نَشأَ عن حربٍ لا عن كارثةٍ طبيعيّة. ‏وبالتالي يَــتحـــتَّمُ أن تكونَ مقاربتُـــه سياسيةً بَحتة، خصوصاً أنّه مرتبطٌ بثلاثةِ ‏معطياتٍ، واحدُها أخطرُ من الآخر: النظرةُ السوريّةُ التاريخيّةُ إلى لبنان، ‏مخطّــطاتُ التهجيرِ التي تَـــعُــــمُّ الشرقَ الأوسط، والفَرزُ المذهبيُّ المتَــــعـــمَّــدُ ‏في حربِ سوريا.‏

مشكلةُ النازحين السوريّين لا تَرتبط بلبنانَ فقط لكي نَصبِرَ عليها، ولا بالعَلاقاتِ ‏اللبنانيّةِ ـــ السوريّةِ فقط لكي نكتفيَ بالتواصُلِ الثنائي. إنها جُزءٌ من مشروعِ نقلٍ ‏سكّانيٍّ جَماعيٍّ لشعوبِ دولِ المشرِقِ في العراق والأردن وسوريا ولبنان وفلسطين. ‏ولذلك يُصِرُّ المجتمعُ الدوليُّ على ربطِ إعادةِ النازحين بالحلِّ السياسيِّ النهائيِّ في ‏سوريا، وحتى في المِنطقةِ، ريثما تتبلورُ الخريطةُ الديمغرافيّةُ والكيانيّة.‏

وَضَعَت هذا المشروعِ دولٌ كبرى تحت ستارِ تغييرِ الأنظمة، وتورَّطت فيه شعوبُ ‏الـمِنطقةِ تحت ستارِ "الربيع العربي"، واشترَكَت فيه أنظمةُ الـمِنطقةِ تحت ستارِ ‏المحافظةِ على وجودِها، ورَعَته الأممُ المتّحدةُ تحت ستارِ العاملِ الإنسانيِّ، ودَفعَ ‏ثمنَه الفقراء، وحَملَت وِزْرَه الدولُ الضعيفة. وإذا كانت الحروبُ سبَّبت النقلَ ‏السكانيَّ (الترانسفير)، فهذا بدورِه سيَتسبَّبُ بحروبٍ جديدة.‏

غائيّةُ هذا المشروعِ أساسًا هي التالية: 1) تغييرُ كِياناتِ دولِ الـمِـنطقةِ وهوّياتِها ‏القوميّةِ والديمغرافيّة. 2) إقامةُ حِزامٍ أمنيٍّ دائمٍ متعدِّدِ الطوائف حولَ الكِيان ‏الإسرائيليّ. 3) التجاوبُ مع أحلامِ عددٍ من الأقليّاتِ الإسلاميّةِ الباحثةِ عن حكمٍ ‏ذاتيٍّ واستقلال. 4) منعُ وجودِ كياناتٍ كبيرةٍ تحاولُ لَعِبَ دورِ الدولةِ الإقليميّةِ ‏الكبرى. 5) إنهاءُ مشروعِ القوميّةِ العربيّةِ الذي انطلَق من المشرِق. 6) خلقُ حالةِ ‏توتّرٍ دائمةٍ بين مكوّناتِ المشرِقِ لتحجيمِ دورِها وإلهائِها في ما بينَها.‏

بعيدًا عن المبادئِ الوطنيّةِ والإنسانيّةِ والأخوّية والخرائط، يكفي اعتمادُ مبدأِ ‏الحسابِ لنكتَشِفَ استحالةَ أن يَتحمّلَ لبنانُ نحو مليونٍ ونِصفِ مليونِ نازحٍ سوريٍّ، ‏أي 40% من سكّانِه، فيما مساحتُه 10.452 كلم²، وعددُ مواطنيه 4 ملايين، ‏والبطالةُ فيه فاقَت الــــ 47% من قِواه العامِلة، والفَقرُ تعدّى الــــ 51% بين شعبِه، ‏والمديونيّةُ ناهزَت الـــ 100 مليونِ دولار، والعُملةُ الوطنيّةُ خَسِرت 85% من ‏قيمتِها، والنموُّ ينوءُ تحت الصِفر، والمصارفُ مُفلِسةٌ من دونِ إعلان، وهِجرةُ أبنائِه ‏زادَت نحو 42% منذ سنةِ 2019.‏

إنَّ كلَّ يومِ تأخيرٍ في إعادةِ النازحين السوريّين إلى بلادِهم يَرفعُ نسبةَ الخطرِ عليهم ‏وعلى لبنان، خصوصًا إذا تَدهورَ الوضعُ الأمنيّ. نحنُ أمامَ مشكلةٍ مزدوجةٍ: 1) إذا ‏استعادَت سوريا وِحدتَها الجغرافيّةَ كاملةً، سيُقنِّنُ النظامُ عودةَ النازحين لاعتباراتٍ ‏طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ وعقائديّة؛ فأعمالُ الفرزِ السُكّانيِّ المدروسِ التي قام بها النظامُ ‏عسكريًّا منذُ سنةِ 2011 لن يعودَ عنها ديبلوماسيًّا كُرمى لعيونِ لبنان. 2) وإذا أُعيدَ ‏النظرُ بوِحدةِ سوريا المركزيّةِ على أساسٍ مَذهبيّ، تَتعقّدُ عودةُ النازحين أيضًا ‏بسببِ بِدائيةِ المؤسّساتِ المناطقيّةِ الجديدة وفِقدانِ مُستنداتِ الأحوالِ الشخصيّةِ ‏وإشكاليّةِ التهجيرِ الداخليّ.‏

أثناءَ الحربِ في سوريا، كان لبنانُ معنيًّا إنسانيًّا باستضافةِ النازحين، وقد استَقبل ‏أعدادًا تَفوق طاقتَه وظروفَه الخاصّة. اليومَ، وقد بَلغَت الحربُ هناك نهايتَها ‏العسكريّة، لا يجوزُ للنازحين أن يَبقَوا بعدُ على أراضيه وقد طَوَوا سنتَهم العاشرة. ‏استَضفْناهم منعًا لتعرُّضِهم للموتِ إبّانَ القتال، ونطالبُ بعودتِهم إلى سوريا منعًا ‏لتعرُّضِهم للفَقرِ والشقاءِ والذُّلِ في لبنان. والّذين يحاولون أنْ يُشعِرونا بعِقدةِ ذنْبٍ ‏وبقِلّةِ روحٍ إنسانيّة، أوْلى بهم أنْ يَشعُروا، هم، بنَقصٍ في الوطنيّةِ والولاءِ للبنان. ‏هذه شعاراتٌ لا تؤثّرُ فينا. أدَّيْنا قِسْطَنا للنازحين وللإنسانيّةِ أكثرَ من أيِّ دولةٍ ‏عربيّةٍ وأجنبيّة أخرى. لكن، ما للإنسانيّةِ للإنسانيّةِ، وما للبنانَ للبنان. ومَن قَدَّمَ ‏للنازحين السوريّين ما قَدَّمه لهم لبنانُ الصغيرُ والفقيرُ والمديونُ والمأزومُ ‏والمنكوبُ، فلْــيَرفعْ إصبَعه على طولِ طريقِ الشام...‏

‏***‏