بدأت عملية تطويع الاتحاد العمالي العام ومحاولة السيطرة عليه مطلع التسعينيات، بالتزامن مع انطلاق مسيرة الوصاية، من ضمن عملية شاملة قامت بها مستهدفة كل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، خصوصاً بعدما أظهر الاتحاد مناعة حيال محاولات التدخّل في شؤونه وعمله وعدم تجاوبه مع طلب وقف تحركاته المطلبية في تلك الفترة. وقد ظهرت هذه المناعة بوضوح مع إصرار الاتحاد على تنفيذ الاضراب العام ضد حكومة الرئيس عمر كرامي العام 1992 احتجاجاً على تدهور الوضع المعيشي والاقتصادي والنقدي في البلاد.
سلكت سلطة الوصاية لتنفيذ هذه المهمة الطريق الأسهل، عبر تفريخ الاتحادات والنقابات العمالية، الخيار الذي كان الأفضل بالنسبة إليها من خلق حركة نقابية حقيقية موالية. بدأت هذه العملية فعلياً وبشكل منسّق وضارب إبان تولّي الوزير عبد الله الامين وزارة العمل، الذي أنشأ 7 اتحادات عمالية تابعة للأحزاب الموالية لسلطة الوصاية، ثم تتابعت هذه العملية مع الوزراء الذين تعاقبوا على الوزارة وارتفع بذلك عدد الاتحادات المنضوية في الاتحاد العمالي العام خلال فترة قصيرة من 23 الى 43 اتحاداً، ومن ثم الى 52 اتحاداً مع وجود اتحادين خارج المجلس التنفيذي لـالعمالي.
في هذه المرحلة الجديدة التي ما زالت قائمة حتى الآن، ارتفع عدد النقابات من 217 نقابة في بداية التسعينات الى 600 نقابة الآن، بحسب آخر تقرير لوزارة العمل.
لم تراعِ وزارة العمل في إنشاء النقابات أبسط الأسس النقابية لجهة عدد المنتسبين وصحة التمثيل. فمن اتحادات موجودة اصلاً ينتمي إليها آلاف المنتسبين وعشرات النقابات، الى اتحادات حديثة يقلّ عدد منتسبيها عن المئة.
هذا التشويه الخلقي ترك تداعيات عميقة في العمل النقابي برمته، فاتحاً مرحلة جديدة اتّسمت بانعدام الثقة بين القاعدة العمالية وقيادة الاتحاد، والتبعية، والتسييس، والابتعاد عن هموم الناس وقضاياهم.
أظهرت دراسة احصائية أجراها المركز اللبناني للتدريب النقابي وشملت 36 اتحاداً عمالياً، تحت اسم من يمثّل من أن نسبة المنتسبين الى النقابات بلغ نحو 8 في المئة من أصل 750 الف ناشط اقتصادي، وهم الذين يحق لهم الانتساب الى النقابات، في حين أن 5 في المئة فقط من أصل المنتسبين يشاركون في الانتخابات.
وتوزّع أعضاء المجلس التنفيذي للاتحاد البالغ عددهم مئة عضو (يشكّلون الهيئة الناخبة) كالآتي: 29 عضواً لحركة أمل، 10 أعضاء لحزب الله، عضو واحد للتيار الوطني الحر، 5 أعضاء للحزب السوري القومي الاجتماعي، 4 أعضاء لحزب البعث، عضو واحد لتيار المردة، 4 أعضاء للأحباش، 10 أعضاء للحزب الشيوعي، 10 أعضاء مستقلّين محسوبين على قوى 8 آذار، عضوان للرئيس عمر كرامي، عضو واحد محسوب على الرئيس نجيب ميقاتي، 18 عضواً للقوات اللبنانية وحزب الكتائب، عضو واحد لتيار المستقبل، 3 أعضاء للحزب التقدمي الاشتراكي، عضو مستقل محسوب على قوى 14 آذار.
[.. وانفرط عقد الاتحاد
إذاً بدأت مرحلة وضع اليد على الحركة النقابية في لبنان. عدة الشغل اكتملت. صار للوصاية وزير عمل دائم في الحكومات المتعاقبة. مهمته الأولى تطويع الاتحاد العمالي العام، بحيث يحذو الأخير حذو المؤسسات الأخرى السياسية والعسكرية التي وضعت كلها، ومن دون استثناء، تحت مجهر الوصاية ومحاسبتها.
عن هذه المراحل الأولى لانطلاق مسيرة الوصاية على الحركة النقابية يتحدث النقابي المخضرم ياسر نعمة:
الصراع كان بدأ بين وزارة العمل وما تمثله وبين الاتحاد العمالي العام، غداة إجراء انتخابات هيئة مكتب المجلس التنفيذي للاتحاد العمالي في العام 1993 وانتخب يومها الياس أبو رزق رئيساً للاتحاد بفعل الموقف النقابي والقوى التي وقفت الى جانبه.
كذلك جاءت الانتخابات أيضاً برئيس اتحاد موظفي المصارف جورج الحاج نائباً للرئيس ونعمة اميناً للسر، وهذه النتيجة خالفت بصورة واضحة رغبة وموقف وزارة العمل.
وإضافة الى ذلك شكّل إصرار قيادة الاتحاد العمالي على تنفيذ الاضراب احتجاجاً على تردي الوضع المعيشي ضد حكومة الرئيس كرامي عاملاً حاسماً في القرار الذي اتخذته السلطة لتغيير قواعد اللعبة داخل الاتحاد العمالي العام.
ومنذ ذلك الحين بدأت عملية التضييق على الحركة النقابية ومحاولات استيعابها في آن، فكانت رحلات متعددة الى دمشق حيث أولى نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام هذا الموضوع عناية خاصة، فجمع الاتحاد العمالي وممثلين عن وزارة العمل في مقرّ اتحاد عمال سوريا، لتسوية الامور بينهما.
لكن لم تنفع كل تلك المحاولات في توحيد الفريقين على موقف واحد، الى أن أعلنت الحرب على الاتحادات من قبل الدولة وأجهزتها، وعلى رأسها قائد الجيش السابق إميل لحود والأجهزة الأمنية، وترافق ذلك مع بدء المطالبة باجراء انتخابات للاتحاد العمالي.
تمّت الدعوة الى الانتخابات عام 1997. اجتمع الاتحاد بأكثريته وانتخب قيادته في غرفة رئيس الاتحاد الياس أبو رزق، بينما اجتمعت في القاعة المحاذية مجموعة من النقابيين، من الاتحادات وغير الاتحادات بحضور ممثل لوزارة العمل، وجرت انتخابات أخرى موازية. كانت الشوارع المحيطة بالاتحاد تعجّ بالمتابعين وفي مقدمهم مندوب منظمة العمل الدولية، ومندوب منظمة العمل العربية، وممثلون عن منظمات حقوق الانسان ونقيب المحررين ونقيب المحامين ورؤساء روابط المعلمين، إلا أن القوى الامنية حالت دون دخول مقر الاتحاد.
[تضييق فإهانات.. فاحتجاز
تعرّض يومها النقابي البارز الياس الهبر للإهانة وأخرج من الاتحاد مع غيره من النقابيين واحتجزوا لإفشال العملية الانتخابية التي تمّت بحضور كاتب عدل بيروت ، بينما جرت الانتخابات الموازية وسُهّلت لها كل السبل لتشريعها.
وكان الرئيس الجديد للاتحاد غنيم الزغبي قد وضع شرطاً قبل الانتخابات للاستمرار في منصبه، أن يتم إعادة توحيد الاتحاد العمالي العام خلال سنة، وإلا فإنه سيستقيل، وهكذا كان.
أما بالنسبة لأبو رزق، فقد أصرّ على التمسك باسم الاتحاد العمالي العام المستقل، الذي أطلقه الاعلام يومها على هذا الاتحاد الذي يرأسه، فلوحق قضائياً بتهمة انتحال صفة، وجرى التحقيق معه وأبقي قيد التحقيق. كما جرى التحقيق مع نعمة وتم توقيفه أيضاً وترك بعد سبع ساعات نتيجة رد فعل سياسي لم يرضَ حينها بتوسيع المعركة مع العمال، وكذلك أفرج بعد يومين عن أبو رزق.
ويضيف نعمة أن وزارة العمل لعبت دوراً كبيراً في عملية تكبير وتضخيم الهيئة الناخبة، فرخّصت النقابات والاتحادات العمالية، فتضخّم عدد الاتحادات من 23 اتحاداً الى 43 اتحاداً ومن هنا تمّت السيطرة على الاتحاد العمالي العام الذي يضم حالياً 52 اتحاداً عمالياً.
ويتابع أن وزير العمل عبد الله الامين هو من قاد هذه العملية بامتياز، وأثناء ولايته بدأت عملية التفريخ حيث تم إنشاء 7 اتحادات عمالية، وبعدها استمرت هذه العملية في عهد الوزراء المتعاقبين إلا أن ذلك لم يكن بنفس الزخم إنما بوتيرة أقل بكثير من أجل ترسيخ السيطرة على الاتحاد العمالي وإرضاء بعض القوى السياسية.
ويكشف نعمة ان الرئيس رفيق الحريري كان غير راضٍ عن الطريقة التي تم التعاطي من خلالها مع الاتحاد العمالي العام، وقد حاسب الوزير الأمين على ما يرسله للنشر في الجريدة الرسمية لاسيما بالنسبة لإنشاء النقابات والاتحادات، إذ كان من المفترض أن ترسل القرارات المعدّة للنشر الى رئيس مجلس الوزراء لأنه هو رئيس تحرير الجريدة الرسمية، فيما كان الوزير الامين يرسلها مباشرة لتمريرها ونشرها من دون أي تبريرات أو علم من الرئيس الحريري.
ويؤكد نعمة ان الاتحاد العمالي لم يكن مستهدفاً بحد ذاته وبأشخاصه، انما كان الهدف السيطرة عليه من خلال المجيء بأشخاص يؤمّنون تنفيذ سياسة السلطة، لأن السيطرة على الاتحاد كانت مطلوبة وهي كانت الهدف الاساسي.
ويضيف بذلك أصبح الاتحاد جزءاً من أدوات سلطة الوصاية يستعمل حيث يلزم، ومن هنا كان الموقف المميز لأول رئيس اتحاد بعد هذه العملية، أي الزغبي، الذي قدّم استقالته نهائياً من دون أن يعود عنها رغم التدخلات والضغوط الكبيرة عليه. ومنذ أن قدّم استقالته لم يظهر على ساحة العمل النقابي نهائيا.
وفي رأي نعمة أن التضخّم العددي للنقابات والاتحادات أضرّ كثيراً بالعمل النقابي، وقد أدى ذلك الى تمييع مواقف الاتحاد وغيابه التام عن القضايا المطلبية والمعيشية، فيما مضى وقت طويل من دون أي نتيجة تذكر سوى تثبيت زيادة بدلات النقل.
[ الاتحاد يغيب عن مطالب العمال
وقال بعدما سيّس الاتحاد العمالي نفسه، باتت اهتماماته بعيدة كل البعد عن مطالب العمال، في حين أنه وأمام الوضع المعيشي والاقتصادي الصعب الذي تمرّ به البلاد الآن خصوصاً العمال وأصحاب الدخل المحدود، كان المطلوب منه أكثر من ذلك بكثير.
وسأل أين الاتحاد العمالي العام الآن من تاريخه؟ هذا التاريخ الذي ترك فيه بصمات كثيرة رؤساء قادوا الاتحاد وهم: غبريال الخوري (أول رئيس)، جورج صقر (ثاني رئيس)، وأنطوان بشارة (ثالث رئيس)، الذي طرح اسمه في البيت الابيض لتولّي رئاسة الجمهورية كحل وسط لإنهاء الحرب الأهلية في لبنان. وكذلك الياس أبو رزق كرابع رئيس للاتحاد.
وأعطى نعمة مثالاً على التدخّل الامني للسلطة في العمل النقابي، إذ قال من بين أبرز المشاكل التي واجهناها مع السلطة،هو أن رئيس الاتحاد العمالي العام الياس أبو رزق انتخب رئيساً للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهذه المرة الاولى التي ينتخب فيها رئيس الاتحاد رئيساً لمجلس إدارة الضمان، لكن التدخل الأمني آنذاك فرض في مرحلة أولى عدم حضور أي عضو من مجلس إدارة الضمان الاجتماع الأول للمجلس الذي دعا اليه أبو رزق، مع تسجيل غياب كلي لموظفي مجلس الادارة، وفي مرحلة ثانية تم الضغط على الجميع وبالتزامن تمّت الدعوة لانتخاب رئيس جديد لمجلس ادارة الضمان وهكذا كان.
أما النقابي عبد اللطيف ترياقي، فقد أوضح أن الاتحاد العمالي العام لديه مؤسسات دستورية وهي تشكل المحرك الاساسي لعمله، إلا أن قيادة الاتحاد اتخذت منحى غير ديموقراطي من خلال إلغاء مجلس المندوبين والاستعاضة عنه بالمجلس التنفيذي وتركيز القرار في هيئة المكتب.
وقال ان طريقة تشكيل المجلس التنفيذي الذي يعتمد على نظام عددي وليس نسبياً هي التي فتحت المجال واسعاً أمام وزراء العمل للامساك بطريقة سهلة بالاتحاد العمالي. فكل اتحاد مهما بلغ عدد منتسبيه يكون له ممثلان اثنان في المجلس التنفيذي. فهناك اتحادات لديها آلاف المنتسبين وعشرات النقابات، تقابلها اتحادات شكلت على عجل من 3 او 4 نقابات بعدد منتسبين لا يتجاوز المئة شخص، وكل واحد من هذه الاتحادات لديه ممثلان اثنان في المجلس التنفيذي، وهذا أمر غير ديموقراطي.
وانطلاقاً من ذلك بدأت السلطة بتفريخ النقابات والاتحادات العمالية، وهذا الأمر سهل بالنسبة إليها لأنه بيدها وبإمكانها التحكم به، في حين أنها لا تستطيع خلق حالات نقابية فعلية.
ورأى ان الهمّ الاساسي بالنسبة للسلطة من تفريخ النقابات والاتحادات العمالية هو السيطرة على الاتحاد العمالي العام وقراره من دون الأخذ في الاعتبار حقيقة العمل النقابي وصحة التمثيل العمالي الحقيقي. وظهر ذلك جلياً في حالات متكررة، من خلال تجميع عدد من العمال لتفريخ النقابات.
وأشار الى أن تفريخ النقابات في مختلف الاراضي اللبنانية، حرم الحالات النقابية الحقيقية من انشاء نقابات خاصة بهم، لاسيما أن القوى المسيطرة كانت قد استخدمت كل التسميات لإنشاء نقابات وهمية تابعة لها، ودائما الهدف هو الإخلال بالتوازن في المجلس التنفيذي للاتحاد العمالي.
هذا الواقع اوجد 3 أنواع من الاتحادات:
- اتحادات جهوية حقيقية منتشرة في معظم المحافظات.
- اتحادات قطاعية فعلية.
- اتحادات لا يعنيها التواجد في الساحة النقابية، انما لأهداف انتخابية بحتة.
وأشار ترياقي الى أن الفئة الثالثة، والتي تتحكّم بها قوى 8 آذار، باتت الآن تشكّل 65 في المئة من المجلس التنفيذي، في حين أنها لا تمثّل سوى 5 في المئة أو أقل من القاعدة العمالية.
وبيّن ترياقي الأساليب التي اتّبعت لتفريخ النقابات والاتحادات العمالية: هناك حالات تظهر أن الكثير من النقابات تضم أقل من 12 منتسباً، ومن 3 نقابات على الأقل يتمّ إنشاء الاتحاد، وبالتالي فإن اتحاداً عمالياً يمكن أن يكون مؤلفاً من 36 منتسباً. وبالإضافة الى ضآلة المنتسبين هناك الكثير من النقابات تشكّل من ذات المنتسبين، أي أنه يتمّ تنسيب العامل نفسه في نقابات عدة.
هذه حالات موجودة ومعروفة. وقد تمّ استغلال عدم وضوح قانون العمل في هذا المجال لإنشاء اتحادات عمالية لا تحمل صفة تمثيلية، ما أدى الى زيادة عدد الاتحادات من 22 اتحاداً الى 52 اتحاداً.
لهذه الأسباب مجتمعة لا يرى رئيس الاتحاد السابق أنطوان بشارة سوى البكاء على حال الاتحاد: لم يعد لدينا حركة نقابية، إنما شلّة من الناس تتلقّى تعليماتها من أحزابها وتتحرك بناء لطلبها وليس لطلب العمال. الاتحاد صار اتحادات.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.