رشيد درباس
السياسة وسيلة قوم بلا
مبادىء لقيادة قوم بلا ذاكرة
فولتير
يتوقع المتوقعون أن زيارة البابا إلى لبنان، هي مهلة ما بين تصعيدين، إذ تشير الدلائل أن نارًا حامية أوقدت تحت الترتيبات الجديدة للشرق الأوسط، كما قررها دونالد ترامب ويتولى جزءًا من تنفيذها بنيامين نتنياهو الذي لا ينفك هو وأجهزته عن التأكيد على أن إسرائيل في حالة حرب على ثلاث جبهات، هي غزة وإيران ولبنان. معظم اللبنانيين يضرعون لربهم أن يكون لحضور قداسة البابا أثر عميق في النفوس والعقول لمهابة ما يفيد لبنان بمواقفه تجاه الأخطار المتلاحقة، فهو منذ خطابه الأول، استمرار لسياسة الانفتاح والعناية التي مارسها من سبقه تجاه المظالم الفظيعة التي تقع على الشعوب المستضعفة، لا سيما الشعب الفلسطيني. ولأن "لبنان أكبر من وطن، بل هو رسالة"، فقد بَوَّأه قداسة يوحنا بولس الثاني مقامًا جديرًا بالحماية والرعاية يتأكد بزيارة الحبر الأعظم؛ فمعنى اختيار لبنان، من ضمن جولته الأولى، في هذا الظرف الخطر، هو اهتمام خاص بهذا الكيان، دولة ومؤسسات، لما له من أثر في التوازن المجتمعي في منطقة تتعدد فيها الأديان والمذاهب، والقوميات.
ورغم أن هذه البركة الرسولية تشمل لبنان كله، نجد فينا من يرفضها ويتعنت في مواقفه حتى حدود الجحيم،بل يذهب بنا من الواقعية السياسية إلى حكاية إبريق الزيت التي لا تنتهي فصولًا، ولا يمل من روايتها بعض الرواة؛ وأظن أن ضرب المثل"بالجدل البيزنطي"، أصبح مستهلكًا بالمقارنة مع الجدل اللبناني من بعض من ندبوا أنفسهم للدفاع عن سياسة الممانعة أو مهاجمتها، علمًا أن الجدل بحد ذاته علم ينتفع به، أما ما نحن فيه، فمماحكات لفظية، ضعنا بين أولها وآخرها؛ بالأمس قامت الطائرات الإسرائيلية باغتيال القائد العسكري في حزب الله هيثم الطبطبائي وسقط معه شهداء آخرون، فإذ بنا أمام مطالعات تهتم بنفي جنسيته الايرانية، وتستفيض بالحديث عن حنكة الحزب في لبنان وحركة حماس في غزة، بالتزام عدم الرد على العدوان الإسرائيلي الذي لا ينتهي، بحجة تأجيل ذلك إلى "الزمان والمكان المناسبين"، فإذا ما قال قائل إن العدو يخترقنا بالتجسس والذكاء الاصطناعي والأسلحة فائقة الدقة، جاءك الجواب بأن المقاومة استردت عافيتها، وأنها منيعة في شمال الليطاني، متمسكة بسلاحها، وجاهزة للتصدي للاجتياح الاسرائيلي القادم.
وإذا لفتهم أحد إلى رسالة الاستقلال التي أذاعها رئيس الجمهورية من ثكنة صور، وما تضمنت من تأكيد على احتكار الدولة للسلاح، أجابوا: بل في الكلملة المشار إليها ما يدل على ان الرئيس تبنى مقولة "الثلاثية الذهبية"، علمًا أن الاتزان الدقيق الذي بنيت عليه تلك الكلمة، قد أخذ بعين الاعتبار الهواجس التي تعاني منها طائفة بعينها، لكنها عدَّت الأمر جزءًا من هاجس وطني واحد يشمل الطوائف والمذاهب، مفاده انه آن للبنانيين ان يسلموا قيادهم لدولتهم، لتتولى هي درء الأخطار، وتبديد الارتياب من خلال وحدة الحكم وإطلاق مشاريع التنمية، وعقد الصداقات العربية والدولية كوسيلة لإخراج اسرائيل من أرضنا ووقف عدوانها.
تجدر الملاحظة هنا أن مواقف الدولة لا يُعَبَّرُ عنها بحسن الكتابة، بل برصانة الفكروالصراحة وبإنشاء خط ساخن يحيط من خلاله الحكم المواطنين بالتطورات والتدابير، وذلك قطعًا لشبهة أن المواقف اللبنانية، يرسمها رئيس حزب ما أو مسؤول إيراني، أو مبعوث أميركي.
قد أذهب بالصراحة إلى مدى بعيد، فأقول إن طمأنة سكان المستوطنات الاسرائيلية- كما ورد في خطاب الشيخ نعيم قاسم- يثير ريبة معظم اللبنانيين، لأن هذا يفصح على أن التمسك بالسلاح صار هدفًا داخليًا، بل إنها لحجة متهافتة توصيف السلاح على أنه ذو وظيفة احتياطية في وجه العدوان، فهذا العدوان يتربص باللبنانيين كلهم، بما يُسَوِّغُ لهم، على اختلاف انتماءاتهم ان يتسلحوا، وبهذا يصبح لبنان مؤهّلًا موضوعيًا، بأن يكون بؤرة حروب لا تنتهي بين أهل الوطن الواحد. وتقتضي الصراحة أيضًا القول إنه إذا صح التفسير بان الالتزام باتفاق وقف اطلاق النار يعني جنوب الليطاني حصرًا، فإن الدولة من شمال الليطاني إلى النهر الكبير الجنوبي ستكون محكومة بفائض القوة الذي يحتكره فريق واحد، ينتهك الدستور طولًا وعرضًا، وذلك لمصلحة الفقرة (ياء) من المقدمة. لقد اوصلتنا الممانعة إلى حرف الياء وأسقطت الألف وأخواتها، وأبقت لبنان رهين "شبه الدولة"، المعرضة دائمًا للتعطيل بإنسحاب الوزراء، وتظاهرات الروشة والمدينة الرياضية، وإسقاط التفاهم تحت ذريعة واحدة وهي أن من ليس معنا، هو حليف لاسرائيل.
والصراحة توجب التنبه إلى إن الضريبة اليومية الدموية التي يدفعها الحزب، واستطرادًا لبنان كله، هي أفدح بكثير من أرباح التحكم الفاشل بمفاصل الدولة، علمًا أن إسرائيل لا تأبه لمثل هذه المعادلة القائمة على التوهم والإنكار، لأنها على نهج تصعيدي لا تتراجع عنه.
كما أن المكاشفة توجب علينا ألا نتوقف عند النبرة الخطابية العالية، فقليلها من ديوان الحماسة وأكثرها صراخ مبعثه الآلام.
ما أحاول استنتاجه، أنه إذا رفضنا التسويات الدولية والإقليمية بما فيها إسهامات الدول الشقيقة والصديقة، وقعنا في محظور خطر، هو إطلاق يد نتنياهو ليفرض أمرًا واقعًا جديدًا مصحوبًا بأنهر الدم وتعميم الدمار، وهذا ليس من قبيل التوقع أو التنبؤ، بل من باب القراءة لما حدث معنا ويحدث، وما جرى ويجري في غزة والضفة. إن الأهداف الاسرائيلية تتخطى التسويات التي يجري إعدادها فحذار من مجابهة القنبلة بالدعاء والصاروخ بالخطاب، فللمقاومة والممانعة أشكال لا تنتهي تبتكرها الشعوب إذا عرفت كيف تصمد وتتمسك بأرضها.
كان الشاعر الفلسطيني الراحل توفيق زياد على حق تمامًا حين قال:
"فلقد أعيانا يا اخواني
رشُّ السُّكَّرِ فَوْقَ المَوْتْ"
ذلك أن السكر يَشِحُّ، والموت يزيد.




يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.