10 تشرين الأول 2025 | 10:25

منوعات

وُلد قلبي ناقصًا… فأكمله رجل اسمه رفيق الحريري

وُلد قلبي ناقصًا… فأكمله رجل اسمه رفيق الحريري

لا أكتب سيرةً عابرة؛ أكتب شهادة حياة.

أنا ابنُ نبضةٍ كانت تتعثّر، وابنُ رحمةٍ سبقتني. وُلدتُ بصمّامٍ يحتاج إلى عنايةٍ أكثر ممّا يحتاج إلى هواء. منذ فجر عمري، صار الأبيض لوني: أسرّة المستشفى، معاطف الأطبّاء، وعيون الممرّضات المرتاحة على قلبي الصغير.

أذهب إلى المدرسة كأيّ طفلٍ يحمل حقيبته وقرطاسه، لكنّي كنت أحمل سرًّا لا يُرى. في ساحة اللعب جمعتُ شجاعتي وسألت رفاقي، واحدًا تلو الآخر:

“إنت بتروح عالمستشفى متلي كل فترة؟”

فيُجيبون بدهشةٍ صافية: “لا… ليه؟”

هنالك عرفتُ أن طريقي ليس كطرقهم؛ لم أشعر بالنقص، بل بتميّزٍ ثقيلٍ وجميل، كأنّ الله وضع على كتفي مهمّةً لا تُوكَل إلّا لمن سمع الدنيا من جهة الأجهزة أولًا.

أهلي عقدوا عهداً مع السماء.

لبستُ ثوب مار شربل وحملتُ اسمه، ثم لبستُ على كِبر ثوب مار الياس الذي سُمِّيتُ باسمه في المعموديّة. كنتُ أمشي بين كفَّين: كفّ القدّيسين وكفّ الأطبّاء. لكنّي تعلّمت باكرًا أن المعجزة، لكي تكتمل، تحتاج إنسانًا على الأرض يفتح بابها.

1993: حين ضاقت الشرايين واتّسعت الرحمة

قال الأطبّاء: حان وقت توسيع الصمّام الأوّل.

“توسيع” كلمةٌ صغيرةٌ لحافةٍ كبيرة بين غيابٍ وبقاء. كلّ شيء كان حاضرًا… إلّا المال.

راهبةٌ قريبةٌ من العائلة، وجهُها إصرارٌ بنبرة صلاة، حملت قصّتي وطرقت الأبواب باسم طفلٍ يحارب بصمت.

لكنّ بعض الأبواب جاوبت ببرودٍ أشدّ من المرض:

“أنتم موارنة… لا تصوّتون لنا.”

أيُّ ثِقَلٍ هذا حين يُوزَن نَفَسُ طفلٍ بميزان صندوق اقتراع!

لم تتعب الراهبة. قيل لها:

“هناك رجل عاد من السعودية… يعمل الخير بلا موعد.”

دخلت إليه لتشرح. لم يدعها تُكمل. رفع الهاتف بجملةٍ حاسمة بدّلت قدري:

“أدخلوه فورًا إلى المستشفى.”

ذلك الصوت كان صوت الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

رجلُ دولةٍ تصرّف كأنّه أبٌ لا يعرف ابنه، لكنه يعرف أنّ حياة طفلٍ لا تُؤجَّل.

ولم يكن وحده؛ امتدّت يدُ السيدة منى الهراوي لتُضيف على الفعل دفءَ أمٍّ تُغطي ما تبقّى من خوفٍ في صدر عائلة.

المكالمة التي صنعت عمري

في تلك السنّ، لم أفهم معنى “رئيس”، ولا ثِقل المناصب.

فهمتُ شيئًا واحدًا: أنّ إنسانًا واحدًا قرّر أن أعيش.

لم يسأل: من أنا؟

سأل ضمنًا: ما الذي يحتاجه هذا القلب الآن؟

فأجاب بالفعل لا بالخطاب، بالقرار لا بالشعارات. كانت الجملة القصيرة أمرًا بالحياة، وبدايةَ عمري الحقيقي.

ما الذي علّمني إيّاه قلبي… وعلّمني إيّاه الحريري؟

علّمني أنّ الضعف حين يُحمَل بصدقٍ يصير قوّة.

أنّ زيارة المستشفى ليست خزياً؛ إنّها تمرينٌ على الامتنان.

أنّ القيادة الحقّة لا تُقاس بعدد الحراس، بل بعدد القلوب التي تُنقَذ.

وأنّ أسماءً كثيرة تُقال في السياسة… لكنّ قلبي لا يحفظ إلّا اسمًا واحدًا لأنّه صار جزءًا من نبضه: رفيق الحريري.

الناس تراه زعيمًا وشهيـ ـدًا ومشروع دولة؛

أراه أنا منقذي. لم يبنِ لي طريقًا ولا مدرسةً ولا بيتًا؛ بنى لي فرصة الحياة.

ومنذ تلك المكالمة، كلّما أزور طبيبي وأنتظر نتيجة فحصٍ جديد، أسمع في داخلي الصدى القديم ذاته:

“أدخلوه فورًا إلى المستشفى.”

امتنانٌ يُعاش ولا يُقال

شكري لأهلي الذين نذروني، وللراهبة التي لم تتعلّم الاستسلام، وللأطبّاء الذين اشتغلوا بيدٍ ثابتةٍ وقلبٍ رحيم، ولـمنى الهراوي التي وقّعت رحمتها فوق رحمته.

وشكري، الذي لا يكفيه الكلام، لروح رفيق الحريري: علّمتني أنّ السياسة حين تتطهّر تصير اسمًا آخر للإنسانيّة.

أنا اليوم لا أطلب معجزة؛ أنا أعيش أثرها.

وكلّ دقّةٍ في صدري صلاةٌ خفيّة تقول:

رحمك الله يا رفيق الحريري… لقد أكملتَ ما بدأ ناقصًا، فصار كاملاً بالمعنى، حاضرًا بالديمومة، نابضًا بي.

شربل الغاوي

مخرج - صحافي وناقد سينمائي

الصور التي نشرتها ليست مجرّد وجوهٍ مرسومة بالذكاء الاصطناعي، بل محاولاتٌ خجولة لاستحضار إنسانٍ لا يُرسم، اسمه رفيق الحريري. يا ريت شفته… لأقلّه إنّ الحياة التي أنقذها ما زالت تذكره.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

10 تشرين الأول 2025 10:25