في نصّ من أعمق ما كُتب، رسم عبد القدوس الهاشمي بحبره مشهدًا شديد الدقّة عن فلسفة أحد القادة الجهاديين الذي يُدعى "همّام" (ربّما يكون اسمًا وهميًّا) في "هيئة تحرير الشام"، والذي فضّل البقاء في إدلب على التوجّه صوب دمشق. شدّد همّام على ضرورة نجاح "نموذج الدولة"، مؤكّدًا أن ما يصلح لنشر فكرة الجهاد قد يُعيق إقامة الدولة، وأن إقامة الدولة اليوم أهمّ.
وتحدّث عن أحمد الشرع ليقول: "ذاك رجلٌ جاء وهو يرى نفسه أميرًا، وقد جرّبنا كثيرين فلم نجد أمثلَ منه. كان في الأحرار قادةٌ لو عاشوا، ولكنّهم جماعة أضرّت بهم الشورى وأضاعهم غيابُ الحزم. كان عليّ أورعَ من معاوية وأعلم، ولكنّ معاوية أسوسُ وأبقى… كان الأحرار أتقى، وصاحبُنا أبقى".
النصّ فيه فلسفة جهاديّة كاملة، لكنّي اقتطعتُ منه الشقّ السياسيّ المناسب كمدخل لمقالي.
تفجير الكنيسة
في حيّ دمشقيّ مختلط من الطبقة الوسطى والفقيرة، وقع تفجير إرهابيّ استهدف كنيسة أرثوذكسيّة وأدّى إلى سقوط عدد من الضحايا، في ما بدا وكأنّه هجوم ممنهج لضرب الاستقرار الأمني في قلب العاصمة، والإيحاء بعجز الحكومة الجديدة عن ضبط المشهد. التفجير، بتوقيته وموقعه، شكّل منعطفًا دمويًّا في مسار العنف الذي اتّخذ منذ سقوط الأسد طابعًا انتقاميًّا من مكوّنات النظام السابق، ومحاولة لتثبيت ميزان قوى جديد بأيّ وسيلة.
بقدر ما استهدف الهجوم المصلّين ودار عبادة، كان يوجَّه أيضًا نحو حكومة أحمد الشرع التي لم يمضِ على تشكيلها أكثر من ثلاثة أشهر، وفي ظل انفتاح عربي ودولي، ورفع جزئي للعقوبات الأميركية، ومفاوضات لتهدئة مع إسرائيل.
سارعت السلطات السوريّة إلى إعلان مسؤوليّة "داعش" عن التفجير، رغم نفي التنظيم، وظهور جماعة جديدة تُدعى "سرايا أنصار السنّة"، تبنّت العمليّة ووجّهت تهديدات ضد المسيحيين والعلويين والدروز ببيان قالت فيه: "أسود السنّة متأهّبون لتحطيم أنوفكم".
من مصلحة الحكومة السوريّة، في كلّ الحالات، تحميل "داعش" مسؤوليّة أي عمل إرهابي، لما يرتبط بذلك من سرديّة أميركية وغربية عن الحرب على الإرهاب، واستمرار لمسار التفاوض مع الأميركيين.
اللافت ما قاله الشرع نفسه بعد أيّام من التفجير، خلال لقائه وجهاء القنيطرة: "هناك دول غير مرتاحة للتحوّل الحاصل في سوريا". وهي عبارة قد تُفهم بأنها لا تعني إيران وإسرائيل فقط.
التطبيع ومسارات السلام
قبل تفجير الكنيسة، كانت تسريبات متواترة تتحدّث عن تطبيع محتمل بين سوريا وإسرائيل. وردًّا على ذلك، صدر موقف رسمي سوري وحيد من خلال الإعلام الحكومي، قال فيه إن الحديث عن سلام مع إسرائيل سابق لأوانه.
تبع ذلك تصريح من وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أعلن فيه، خلال اتصال هاتفي مع نظيره الأميركي ماركو روبيو، استعداد دمشق للتعاون مع واشنطن لإعادة العمل باتفاق فكّ الاشتباك لعام 1974.
من جانبهم، روّج الإسرائيليون لاتفاق تطبيع حتمي مع سوريا، يتبعها لبنان، معتبرين أن التطبيع هو طوق النجاة للنظام الجديد، والطريق الوحيد لرفع العقوبات عن دمشق، بل وسرّ الاستقرار في الإقليم. اعتبروا أن نجاح الاتفاقات الإبراهيميّة يجب أن يُكرّس، وتألّق التطبيع يجب أن يمتدّ.
لكنّهم، في المقابل، تجاهلوا حقيقة احتلالهم أراضٍ سورية ولبنانية، وأغمضوا أعينهم عن المجازر غير المسبوقة التي ارتُكبت في غزّة منذ 7 تشرين الأوّل، مطالبين مصر والأردن -رغم تطبيعهما- بفتح أبوابهما أمام سكّان غزّة والضفّة، من دون احترام أيّ من التزاماتهم السابقة.
الأميركيّون: بين التطبيع واحتواء إيران
في اتّصاله مع الشيباني، أكّد ماركو روبيو اهتمام الإدارة الأميركية بدعم مسار التطبيع مع إسرائيل، لكنّه أوضح أن أولويّاتهم تمتدّ إلى ما هو أبعد من ذلك.
واشنطن تسعى إلى ضمان عدم عودة النفوذ الإيراني إلى سوريا، وتحجيم الوجود الروسي، ومنع التوسّع الصيني، إضافة إلى ملف الأسلحة الكيماوية، ومكافحة داعش، وتعزيز العلاقات الثنائيّة.
روبيو كشف أيضًا أن الإدارة الأميركية تعمل على تنفيذ توجيهات الرئيس دونالد ترامب لرفع العقوبات عن سوريا، بما يشمل العمل مع الكونغرس لإلغاء قانون قيصر خلال الأشهر المقبلة.
وفي تقدير أميركي مباشر لوحدة الأراضي السورية، قال روبيو:إن أسوأ ما قد تشهده المنطقة هو انقسام سوريا أو عودتها إلى الحرب الأهلية.
لن تكون إلا طرابلس لبنان
في الثالث من تموز، خرجت قناة i24NEWS الإسرائيلية بسيناريوهين مزعومين لتسوية سلام بين سوريا وإسرائيل:
- الأول: أن تضمّ إسرائيل ثلث الجولان، وتُعيد ثلثًا آخر لسوريا، وتستأجر الثلث الأخير من دمشق لمدة 25 عامًا.
- الثاني: أن تحتفظ إسرائيل بثلثي الجولان، وتُعيد الثلث المتبقي إلى سوريا ضمن ترتيبات إيجار، مقابل منح سوريا السيطرة على طرابلس ومناطق لبنانية أخرى في الشمال والبقاع.
الصفقة، بحسب التقرير، تشمل أيضًا السماح لإسرائيل بإنشاء أنبوب مياه من نهر الفرات في إطار اتفاق ثلاثي مع تركيا وسوريا.
سيناريو عبثي، يتجاهل أن إعادة رسم خرائط المنطقة لا تتمّ باتفاق ثنائي، بل تتطلّب توافقًا إقليميًّا ودوليًّا غير مسبوق، أو حربًا عالمية تغيّر موازين القوى بالكامل.
أن تطرح قناة إسرائيلية مثل هذا الطرح، أمر غير مفاجئ. لكن أن يتولّى بعض الكتبة العرب أو اللبنانيين الترويج لهذه السردية الركيكة، فهنا مكمن الخطورة، ويجب مساءلة من يصوغ الروايات الإسرائيلية بلسان عربي.
وكما حصل مع ملف التطبيع، جاء الرد السوري مقتضبًا. فقد نُقل عن أحمد الشرع، خلال لقائه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، أنه لم يُعْط المقترح الإسرائيلي حول ضم طرابلس والبقاع إلى سوريا مقابل التخلي عن الجولان أي أهمية إطلاقًا.
وقبل ذلك، ذكرت وسائل إعلام سورية أن الشرع يعتبر الجولان أرضًا سورية محكومة بالقرارات الأممية، وأنه لا يقبل بأي اتفاق لا يضمن انسحاب إسرائيل من المناطق التي احتلتها مؤخرًا، ووقف الاعتداءات الجوية، مقابل التزام سوري بعدم عودة النفوذ الإيراني، والانخراط في المنظومة الأمنية العربية الجديدة، بما يشمل دعم القضية الفلسطينية، والابتعاد عن محور طهران.
الخاتمة
تعرف القيادة السورية الجديدة تمامًا كيف ترى إسرائيل الدول العربية، حتى تلك التي وقّعت معها اتفاقيات سلام.
فإسرائيل، بطبيعتها البنيوية، لا تشعر بالأمان إلا من خلال الهيمنة، وتوسيع رقعة نفوذها، وفرض معاهدات تجعلها شريكة في المياه والثروات والطاقة والممرات البحرية والذكاء الاصطناعي.
هي لا تضمن أمنها القومي إلا عبر إرهاب محيطها، واحتلال أراضٍ لبنانية وسورية، من الجولان إلى شبعا، وصولًا إلى النقاط الخمس التي احتُلّت حديثًا في جنوب لبنان.
لكنّ طرابلس الشام تبقى طرابلس لبنان، لا صفقة تمرّ بها، ولا خرائط تُرسم على حسابها.
لقد اختار اللبنانيون في الطائف نهائية وطنهم لجميع أبنائه، واختاروا انتماءهم العربي، واحترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد.
وما سُرّب في الإعلام الإسرائيلي، وتبنّاه بعض الصغار، ليس سوى تحريض رخيص، ظاهرُه سياسي وعمقُه طائفي، لا يغيّر في الحقيقة شيئًا: لبنان ليس سلعة، ولا مناطقه أوراق تفاوض خاصة مع عدو استباح الأرض والزرع والأخلاق والإنسانية كلها.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.