خلدون الشريف
في الثاني من شهر تموز الجاري، وللمرّة الأولى، يصدر موقف سوري رسمي ويُعمَّم على وسائل الإعلام كافة، يقول: "إن التصريحات المتعلقة بتوقيع اتفاقية سلام بين إسرائيل وسوريا في الوقت الراهن سابقة لأوانها".
هو موقف رافض مُغلّف بأقصى أدبيات "الغموض البنّاء"، منعًا للإيحاء بالوقوف بوجه التيار الترامبي الجامح من جهة، وفي محاولة لإبقاء قنوات الحوار مفتوحة دون سقف زمني، ودون إلزام بمخرجات محددة قبل بلوغ التفاوض مداه.
ترامب رجل الصفقات لا الاستراتيجيات
ليس للرئيس الأميركي دونالد ترامب أية استراتيجية في أي مكان أو حول أي موضوع.
هو محترف صفقات؛ إذا لاحَت له صفقة رابحة دخلها مهرولًا، وإذا شكّ في إمكانية الربح، وقف منتظرًا من يفاوض أو يقاتل أو يعرض أمرًا ما للبيع.
يدعم الطرف الأقوى دون أن يتخلى عن التواصل مع الأضعف؛ فإذا اقترب طرف من تحقيق النجاح، انضم إليه وقطف، وأما إذا تأكد من عدم نجاح صفقة ما، تخلّى عنها غير آسف، لا عليها ولا على أطرافها، وأدار ظهره ومضى.
ذلك لأنه يدخل كل الصفقات من حساب غيره؛ فالأصل ألا يدفع شيئًا من كيسه أو من كيس أميركا.
هذا هو ترامب، وهذه هي أميركا ترامب.
التسريبات الإسرائيلية وحدها تتحدث عن “تطبيع” مع دمشق
منذ نهاية عملية "شعب كالأسد"، أي الحرب الإسرائيلية على إيران، بدأ نتنياهو يروّج لما يعتبره انتصارًا صافيًا، وقال بالحرف: "إنّ الانتصار على إيران يفتح الباب أمام توسيع كبير لاتفاقيات السلام".
وقد أيّده مبعوث ترامب الخاص، ستيف ويتكوف، بتصريحات حول قرب توسيع "اتفاقيات أبراهام".
لكن المثير أن كل التسريبات بشأن "تطبيع محتمل بين سوريا وإسرائيل" جاءت من مصادر أميركية – إسرائيلية فقط؛ لم نرَ تصريحات من الرئيس السوري أحمد الشرع أو فريقه، ولا تسريبات عربية أو تركية جدية، ولا أي موقف رسمي صادر عن دمشق الجديدة.
وأنا، كنت حاضرًا في مؤتمر أنطاليا الدبلوماسي الرابع (11 – 13 نيسان/أبريل 2025)، حيث شارك الشرع، إلى جانب الرئيس الأذري إلهام علييف، وجمعهما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في لقاء ثلاثي كان محوره بحث ترتيبات أمنية، لا سياسية.
وفي الوقت نفسه، عُقد في العاصمة الأذرية باكو اجتماع بين مسؤولين أتراك وإسرائيليين هدفه تخفيض التوتر الجوي والتوصل إلى اتفاق "تفادي اشتباك" في الأجواء السورية.
لم يكن الحديث في أنطاليا عن تطبيع، ولا بدا الأمر ممكنًا – وذلك فقط قبل شهرين.
أما إسرائيل، فتسعى لتقليص نفوذ تركيا في الإقليم، لا في سوريا وحدها، وتعتبر نفسها في موقع يسمح بفرض "تسوية إقليمية جديدة" بعد دعم أميركي مباشر في ضرب البنية العسكرية الإيرانية.
الموقف السوري: دعم إقليمي ورفض داخلي لأي تطبيع
رغم الحديث عن مفاوضات غير مباشرة، فإنّ البيئة السورية – إقليميًا وداخليًا – ليست مهيّأة لتطبيع سريع أو غير مشروط.
الدول الداعمة للشرع – مثل السعودية وتركيا – ترفض التطبيع المجاني، والشارع السوري بمعظمه، بما فيه محازبو الشرع وقوى المجتمع المدني، لا يزال متمسكًا برفض أي تقارب مع إسرائيل ما لم تُحل قضايا الاحتلال والعدالة.
وفي هذا السياق، أعاد ناشطون سوريون نشر مواقف قديمة للرئيس الشرع حين كان على رأس "أحرار الشام"، أبرز فيها دعمه لغزة عام 2015، مستندًا إلى خطاب إسلامي مقاوم للمحتل.
كما أن الاحتلال المستمر للجولان منذ 1981، والذي اعترفت به واشنطن رسميًا عام 2019 خلال ولاية ترامب، يُشكّل معضلة جوهرية أمام أي اتفاق.
فدمشق تعتبر الجولان أرضًا سورية سيادية لا تسقط بالتقادم، وتستند في ذلك إلى القرار 497 الصادر عن مجلس الأمن.
سوريا تفاوض من أجل الأمن لا التسويات الشاملة
ما تريده دمشق اليوم، كما تفيد أوساط قريبة من الحكم، لا يتجاوز تفاهمات أمنية على أساس اتفاقية فكّ الاشتباك لعام 1974، مع التركيز على:
انسحاب إسرائيل من المناطق التي احتلّتها مؤخرًا.
وقف التهديدات المباشرة لإسقاط الدولة السورية الجديدة.
إنهاء الضربات الجوية داخل الأراضي السورية.
والانخراط – ضمن شروط – في المنظومة الأمنية العربية الجديدة، بما يشمل دعم القضية الفلسطينية، وإعادة التموضع الجيوسياسي بعيدًا عن محور "الدول المارقة".
تركيا قلقة… وأوجلان يحذّر من الهيمنة الإسرائيلية
الموقف التركي من التطبيع ليس أكثر إيجابية. بل تخشى أنقرة من ترك الحلبة الإقليمية لإسرائيل منفردة.
فتركيا بلد محوري في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وطموحاتها الإقليمية لا تخفى على أحد. أما إسرائيل، فترغب بانتزاع أوراق القوة التركية من سوريا والعراق إلى المتوسط.
تتعاطى إسرائيل مع تركيا بعدم ثقة مطلقة ولا ترغب بنفوذ تركي في سوريا، وهو ما تجلّى في تصريحات مسؤولين إسرائيليين حول ضرورة وقف المد التركي هناك، وضرورة دعم الأكراد والدروز، وفتح قنوات تواصل مع علويي الساحل.
وتخشى تركيا إذا ما تحولت إسرائيل إلى قوة مهيمنة إقليمية ليس على نفوذها في المنطقة فحسب، بل على أناضولها حتى.
وقد تعمّدت تركيا تسريب وثيقة لاجتماع جرى في 21 نيسان/أبريل، عبر صحيفة "ميدل إيست آي"، بين عبد الله أوجلان وقيادة حزب "ديم"، حيث شدد أوجلان على أن "إسرائيل تعمل على مشروع استباحة المنطقة كلها منذ ثلاثين عامًا، بهدف أن تصبح القوة المهيمنة في الشرق الأوسط".
السعودية: لا تطبيع دون وقف الحرب وقيام الدولة الفلسطينية
الموقف السعودي واضح: لا يمكن الحديث عن تطبيع دون وقف الحرب في غزة، ودون إطلاق مسار واضح وملزم لإقامة دولة فلسطينية.
هو موقف رسمي سعودي، عربي وإسلامي، تثبّت في قمم جرت بعد حرب غزة في نوفمبر/تشرين الثاني من عامي 2023 و2024، وعبر تشكيل لجنة إسلامية لمتابعة إطلاق مسار دولة فلسطينية، وصولًا إلى التنسيق مع فرنسا للغاية نفسها.
والسعودية تقود اليوم التفاوض مع أميركا ومع إسرائيل للوصول إلى مخرجات تسبق أي سلام أو تطبيع.
من هنا، تبدو محاولة الاستفراد بسوريا تجاوزًا لمبادرة المملكة ودورها الوازن.
وفي رسالة قاسية موجهة إلى ترامب عبر صحيفة "ناشيونال"، قال الأمير تركي الفيصل: "على الرئيس دونالد ترامب ألّا يتبع المعايير المزدوجة، وأن يُصغي إلى أصدقائه في المملكة ومجلس التعاون الخليجي".
وأضاف: "النفاق الغربي في دعم الهجوم الإسرائيلي على إيران متوقّع، كما هو دعمهم المستمر للهجوم على فلسطين. لكن قطاعات واسعة من شعوب الغرب – من النساء والرجال، من مختلف الأعراق والأديان – رفضت تلك المواقف الزائفة، ولهذا نرى تحوّلًا متزايدًا في مواقف قادتهم. في عالمٍ يسوده الإنصاف، لَكُنّا رأينا قنابل الـ B2 الأميركية تدكّ ديمونا!".
إيران تطرح الأمن من بوابة التنمية… وتستقبل تعاطفًا سعوديًا
في تصريح لافت لصحيفة "الشرق الأوسط"، أكد السفير الإيراني في الرياض علي رضا عنايتي نقطتين محوريتين:
أن أول اتصال تلقّاه وزير الخارجية الإيراني عقب الهجمات الإسرائيلية، كان من نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان، أعقبه اتصال من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وهو ما اعتبره السفير "تتويجًا لموقف مشرّف".
أن إيران تؤيد نموذجًا أمنيًا إقليميًا مبنيًا على التنمية والاقتصاد والثقافة، لا على القوة العسكرية، مشددًا على أنّه "لدينا مشتركات ثقافية وتاريخية ودينية كثيرة. وإن وُجد اختلاف سياسي، فالحوار هو الآلية الوحيدة لتجاوزه، بين أخ وأخ، وجار وجار".
نحو صفقة 1974… بنسخة 2025؟
يعلم القاصي والداني أن ما يدور من مفاوضات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل، هو حول إعادة تفعيل أو تعديل اتفاق فصل القوات لعام 1974، بما يُعيد الهدوء إلى الجبهة الجنوبية، ويمنع عودة إيران أو حزب الله إلى حدود الجولان.
وتشير بعض الأوساط إلى احتمال أن تُقدّم إسرائيل "هدية" رمزية لسوريا، عبر مزارع شبعا، رغم أن الخرائط الدولية تُظهر لبنانيتها لا سوريتها.
لكنّ الإسرائيليين يعتبرون أنّ هذه الخطوة قد تُفقد حزب الله ذريعة استمرار السلاح تحت شعار "المقاومة".
وتُطرح أيضًا سيناريوهات لتعاون اقتصادي إقليمي، يشمل:
تصدير الغاز الإسرائيلي إلى سوريا.
تنسيقًا ثلاثيًا (إسرائيلي – أردني – سوري) حول مياه اليرموك.
وربما مشروعًا مشتركًا لتحويل جبل الشيخ إلى وجهة تزلّج شرق أوسطية.
هل نحن أمام تسوية هادئة بلا إعلان؟ أم أنها مجرد جولة مناورات لا أكثر؟
الأسابيع المقبلة قد تحسم طبيعة الصفقة… أو تعيد الجميع إلى المربّع الأول.
الهدوء قد يكون خادعًا، والصفقة قد تولد من دون إعلان… لكن الثابت أن المنطقة تدخل مرحلة إعادة رسم للهويات والمصالح، وسوريا ليست خارج هذا التحول.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.