رشيد درباس
إنما النصرُ صبرُ ساعة
الإمام أبو عبدالله البطال
يقول محمد علي مقلد في مقال: "لغة الحرب الأهلية ومصطلحاتها تطل برأسها، خصوصًا في اللحظة الواقعة بين موت القديم وولادة الجديد."
وقعت عبارته هذه في نفسي موقعًا فاقم هواجسي إزاء ما أراقبه من سجالات محتدمة جعلت من البلاغة حاجزًا ضد البلوغ، ومن ادعاء العودة إلى الأصالة ضربًا من نسف التواصل والوصول، فقد انقسمت "النخب" بين "منتصرين" و"منتصرين"، وهذه معضلة يعجز عن حلها كبار المناطقة وعلماء الكلام، إذا ما جرى تقويم الحوادث والتطورات بإخراجها من سياقها الواقعي، ووضعها في سياق الهوى والتمنيات والمزاعم. تفسير ذلك، أن فريقًا رأى في كسر الفراغ وانتخاب الرئيس عون فوزًا عظيمًا نسبه لنفسه، كما رأى في تشيكل حكومة نواف سلام وبيانها الوزاري صفحة جديدة، كان له الفضل في إحلالها محل صفحات قديمة طُويت. فريق آخر ما زال يتوسل بنيته التنظيمية القوية والحالة الشعبية التي ينتمي إليها، وبقية من سلاح يحتفظ به، ليؤكد على انتصاره المزمن، مسفرًا بالإضافة إلى حجته بمواجهة إسرائيل، عن حجته الحقيقية وهي أن الطائفة الشيعية لن تذهب إلى "الذلة" مهما دفعت من خسائر.
فريق ثالث (قليل العدد) يرتدي ثوب الحَكَم، ويمسك صافرة، ويعلن أن "الشعوب" اللبنانية - والتعبير للصحافي الكبير سركيس نعوم - عادت بمخاوفها إلى مراحل ما قبل التكوين: فالمسيحيون يخشون الاضمحلال والطغيان الأكثري في الداخل والمحيط، والدروز قلقون على الوجود بعد أن كانوا حكام جبل لبنان؛ وهم، كأقليةٍ موزعة على بلدان عدة، يتعرضون لاختراقات وتهديدات وبث تفرقة في صفوفهم. وتخشى الطائفة الشيعية من أن يؤول أمرها إلى "فاقة بعد عز"، فتعود إلى ما كانت عليه من اضطهاد المماليك والعثمانيين والفرنسيين ومعاداة كثير من اللبنانيين؛ أما السنة فلم يصدقوا بعد أن حلم الدولة العربية الكبرى اختفى من الخريطة، فلم يزالوا متشبثين بأنهم هم "الأمة".
هذا يتبدّى جليًّا من المطارحات الإعلامية والمناكفات التلفزيونية المتمادية بين "الدرج" و"المصعد"، وبين تهم الفساد وادعاء الفضيلة، بحيث تحول الفريق الذي زعم لنفسه استيلاد العهد الجديد من فم التنين، أشياعًا مدججة بسلاح إعلامي متطور وحديث يصيب الأعين والآذان بأضرار بالغة، كما فعل "البايجرز" بآذان حامليه وأعينهم. وفي الطرف الآخر عادت لغة "قطع الأيدي" إلى التداول، ولكن بنبرة مبحوحة، بعد أن بُحَّتَ معظم الحناجر من الصراخ والعويل.
لافت جدًّا أن جهات مرموقة تحاول أن تَسِمَ الوضع السياسي الجديد بختمها وطابعها، وأن تذكّر الوزراء بأنهم ليسوا سوى تلامذة، عليهم انتظار (العلامات) من الإدارة الصارمة.
هذه هي اللغة السائدة إذن، فهل من لغة أخرى تواجهها، أو من إرهاصات أفكار يمكن أن تأخذ حَيِّزًا لها في ساحة تبادل الآراء والبحث في المصير؟ الجوابُ أنه لا بد لنا من الذهاب إلى مقاربات أخرى مختلفة عن مرافعات المصارف آكلة الودائع، والشركات السياسية المفلسة، وذلك بإعادة رص الحروف على أسطر نص وطني، بعيد من المثالية والوعظ، قريب من الحقائق المتناولة وإمكانية التطبيق العملي. وعليه، فإنني أسمح لنفسي بسرد بعض الملاحظات التي قد تكون صالحة لحوار بريء من العقائدية الجامدة والمتاريس النظرية:
لا بد أولًا من التذكير بأن الأحداث الراهنة نتيجةُ العدوان الإسرائيلي المستمر، فلا محل إذن لفئة أن تدعي الغلبة، رغم دورها في الصمود بوجه الأمر الواقع. كما يجدر التنبيه إلى أن كسر الفراغ الرئاسي كان محصلة جهود دولية وإقليمية، ورغبة شعبية عارمة، وجدت ضالتها في قائد الجيش الذي أدى دوره الوطني، وحفظ الدولة وأمن الشعب، وأظهر رصانة وشجاعة، حتى صار الخيار الوحيد.
أما سرُّ قوة الحكومة فهو أنها تَشَكَّلَتْ (وَهْنًا على وَهْن)، من أشخاص لا خبرة لهم في الحرب - ما عدا حالة واحدة - ولم ينتموا إلى أندية سياسية، ولا هم من نسل الأقوياء، فكانوا بذلك ترجمة للغالبية العظمى من اللبنانيين الذين أوهنتهم المعاناة، وأفقرتهم السياسات وأذلتهم الويلات. فإذا عدت إلى رئيسها، كدتُ أقول إنه عنوان (للضعف القوي) فإن اتُّهم بقلة الحنكة، عَدَّ ذلك ميزة صدق، وإذا أخذ عليه ارتباك منبري، حسبْنا الأمر من باب تفضيل إنجاز اليد على وعود اللسان، أما قِلَّة صبره وحماستُه فمن صفات أهله الذين أدمنوا السماع إلى أغنية: "للصبر حدود". مؤدى هذا الكلام أن جوزاف عون لا يمثل القوة المسيحية ونواف سلام ليس تعبيرًا عن الانكسار السني، وهما ليسا في حالة تربص، وترصد، بل يشكلان معًا معادلة اسمها قوة اللبنانيين إذا اتحدوا وتآزروا، وآمنوا بالدولة.
إن اللبنانيين الذين تخاصموا حتى التدمير في غمار البحث عن أمان طوائفهم، حَقَّ عليهم أن يجربوا اللياذ بالدولة، لكي تكون هناك تنمية ممكنة، ومشاريع تخلق فرص العمل، فينتمي المواطن بهذا إلى رزقه أولًا، ثم يصلي بعد ذلك في مذهبه وطائفته قربى إلى الله.
تبقى كلمة أخيرة، وهي أن عودة لبنان إلى الاحتراب، أمر لن يتكرر، ولكن ممارسة الألفاظ النارية والألعاب الخطرة على مسرح المرحلة الهشة التي نمر فيها، ينطوي على قلة دراية سياسية، وعلى انخفاض في منسوب العاطفة الوطنية، بما يصطنع العقبات أمام استرداد الدولة لسلطاتها وتطبيق احكام الدستور، وإعادة الإعمار.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.