زياد سامي عيتاني*
(Pâtisserie La Gondole) الواقع في منتصف كورنيش المزرعة، قبالة ثكنة الحلو، كان يختزن تاريخاً وحكايات، نسجت على طاولاته وكراسيه وفي كلّ زاوية من زواياه، وشكّل جزءاً من تاريخ بيروت، قبل أن يطفئ أنواره ويقفل أبوابه، بعد أكثر من 60 عاماً من الخدمة الجيدة والمخلصة، مخلفاً وراءه الحزن والمرارة في نفوس وذاكرة كلّ من له معه ذكريات لا تنسى...
كان أكثر من مجرد متجر حلويات، وأكثر من مجرد مطعم ومطبخ، كان عادة حلوة رافقت السنوات الطيبة، خصوصاً وأن "الجندول" خدم كلّ بيروت والوافدين إليها من مختلف الطبقات لا سيما "البورجوازية"، إذ إعتادت عائلات رأس بيروت والمصيطبة والمناطق المحيطة بها، فضلاً عن الذواقة من الطبقة الراقية على زيارته باستمرار، حيث يتذكّر رواده جيداً أبرز زبائن هذا المكان الدافئ: الرؤساء صائب سلام، شفيق الوزان، رشيد الصلح، تمام سلام، بهيج طبارة، سمير فرنجية، بول شاوول، وغيرهم... ويتذكرون أيضاً كيف كان "الجوندول" ملتقى للصحافيين الذين كانوا يوزعون لقاءاتهم بين مقاهي "الحمراء" و "الجوندول"، إضافة إلى الشباب الجامعيين المتحمسين لأفكارهم وعقائدهم...
**
ففي العام 1956 أسس نبيه مارون مقهى ومطعم "الجندول"، عندما كان محلاً لبيع المعنجات الغربية، وسط كورنيش المزرعة، الذي كان قيد الإنشاء، قبل أن يتحوّل لاحقاً إلى أحد أبرز المناطق التجارية في بيروت، خصوصاً بعد إندلاع الحرب وإقفال وسط بيروت، ومن ثمّ تدميره، بعدما تحوّل إلى ساحة للمعارك بين المتحاربين.
ومن دون شك، كان إفتتاح "الجندول" مغامرة كبيرة حينها، خصوصاً وأنه تميّز بديكوره الراقي والفخم، الذي يوحي بنخبوية المشروع، وكأنّه مخصّص لفئة مجتمعيّة ميسورة، لا سيما أنّه ضمّ مطعماً يقدّم وجبات شرقية وغربية، وباتيسيري خاص بالحلويات الأجنبية، وباراً للمشروبات الروحية، علماً أنّ المنطقة حينذاك، لم تكن مهيأة لهكذا محل، بدليل وجود مقهى شعبي (محلي) بالقرب منه، وهو مقهى "سيمونيدس"، الذي يقصده أبناء محلتي المزرعة والمصيطبة لتدخين "الأراكيل" وشرب القهوة والشاي ولعب الورق.
لكن، خطوة مارون هذه جاءت محض صدفة، خصوصاً وأنّه كان بعد تخرّجه من المدرسة عمل مديراً للمحاسبة في وزارة البريد والبرق والهاتف لمدة سبع سنوات. إلّا أنّه في عام 1956 ، بينما كان يسير في شوارع المدينة بحثاً عن مباني أحلامه، إكتشف لافتة، واقعة مقابل ثكنة الحلو في مار الياس، مكتوب عليها (معجنات لا جوندول)، علم بعد البحث أنها تعود لثلاثة شركاء: جورج مدلج، وفؤاد رزق المتخصّص في (الآيس كريم الأوروبي)، ويعقوب سلوم المتخصّص في (خبز الباغيت والكرواسون)، ففعلت تلك اليافطة فعلها في تفكير مارون، وجذبته وجعلته يأخذ وقته للتفكير، بأن يكون جزءاً تطويرياً للمشروع.
وبالفعل، في العام التالي، إستقال من وظيفته وإلتحق بالثلاثي قبل شراء أسهم رزق وسلوم، وعمد إلى تطوير المحل، لقناعته بحاجة المنطقة إلى متجر معجنات على الطراز الأوروبي، حيث لم يكن هناك سوى مفهومين من هذا القبيل في بيروت في ذلك الوقت، أحدهما في الأشرفية والآخر في شارع القنطاري، ليصبح في غضون عامين Pâtisserie La Gondole العنوان الأساسي للذواقة، حيث أنّه كان لا يتردّد في إرسال طاهي المعجنات إلى مصر لمعرفة أسرار "عيش السرايا"، أو إلى فيينا لكشف أسرار "الغابة السوداء" la Forêt noire.
فسرعان ما بنى La Gondole إسما"
لنفسه أصبح معروفا بالشوكولاتة الناعمة، والغابة السوداء مع مربى التوت في وسطها، والبروفيتيرول والسوكسيه، وعيش السرايا ، وهو نوع من بودنغ الخبز بماء الورد، وقد أحضروا وصفته الأصلية من مصر في عام 1976...
وبذلك، فإنّ المغامر نبيه مارون كسب الرهان، ليتحوّل "الجندول" تدريجياً إلى معلم بيروتي بارز، صار يستدل على كورنيش المزرعة من خلاله، وطبعه بوجوده وأصبح بُوصلة له، وربما ساهم في تشجيع المستثمرين لفتح محلات ومؤسسات تجارية على إمتداد الكورنيش ومن جهتيه.
**
-يتبع.
* إعلامي وباحث في التراث الشعب
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.