6 تموز 2022 | 19:43

منوعات

الحج قديماً.. المناسك في عيون الرحالة!



زياد سامي عيتاني*

الحجاج قديماً، كانت رحلتهم لتأدية الركن الخامس من أركان الدين الحنيف تواجهها المخاطر والمتاعب والمشقة، فضلاً عما يتعرضون له من كوارث العواصف والبرد القارص والأمطار الغزيرة والسيول الجارفة، التي يقابلها صيفاً الحر الشديد وأشعة الشمس اللاعبة، وكذلك الأمراض الفتاكة القاتلة.

وبالرغم من كل هذه المعاناة والمخاطر فإن الأجداد الذين واجهوا شظف العيش، إلا أنه يحدوهم الإيمان لتأدية الفريضة، بكل عزيمة وإصرار، وبقلوب مملوءة بالإيمان والتوكل...

فعند الوصول إلى مكة المكرمة، بعد مشقة الطريق، يؤدي الحجيج طواف القدوم، ويمكثون فيها بضعة أيام طلباً للراحة. بعدها وليلة الوقوف في عرفة يستقرون في منى، ومن ثم يصعدون إلى عرفة، بلا خيام ولا منازل تؤويهم فالأرض فراشهم والسماء لحافهم، بعد ذلك يبيتون فيمزدلفة، وإذا أصبحوا ذهبوا إلى منى لرمي جمرة العقبة ونحر الهدي لمن كان متمتعاً أو قارناً...

**

•وصف إبن بطوطة:

يخبرنا الرحالة المغربي الأشهر في التاريخ الوسيط إبن بطوطة مشاهداته، الذي سجل مشاهداته في الحج سنة 726هـ/1326م.

-الكعبة المشرفة:

حين وطئت قدمه البيت العتيق في 20 ذي القعدة، راح في بلاغة وجزالة يصف مشاعره حين شاهد الكعبة المشرفة لأول مرة في حياته قائلاً:

"وشاهدنا الكعبة الشريفة زادها الله تعظيماً وهي كالعروس تجلى على منصة الجلال، وترفل في برود الجمال، محفوفة بوفود الرحمن، موصلة إلى جنّة الرّضوان".

-الصفا والمروة:

حين أتمَّ طواف القدوم والسعي بين الصفا والمروة راح يقول: "ومِن عجائب صنع الله تعالى أنّه طبع القلوب على النزوع إلى هذه المشاهد المنيفة، والشوق إلى المثول بمعاهدها الشريفة، وجعل حبّها متمكنا في القلوب فلا يحلّها أحد إلا أخذت بمجامع قلبه ولا يفارقها إلّا أسِفا لفراقها، متولّها لبعاده عنها، شديد الحنين إليها، ناويا لتكرار الوفادة عليها، فأرضها المباركة نصب الأعين، ومحبتها حشو القلوب حكمة من الله بالغة، وتصديقا لدعوة خليله عليه السلام، والشوق يحضرها وهي نائية، ويمثلها وهي غائبة، ويهون على قاصدها ما يلقاه من المشاقّ ويعانيه من العناء، وكم من ضعيف يرى الموت عيّانا دونها، ويشاهد التّلف في طريقها، فإذا جمع الله بها شمله تلقاها مسرورا مستبشرا كأنه لم يذق لها مرارة".

-الوقفة في عرفة:

وإذا كان في أول يوم من شهر ذي الحجّة رأى ابن بطوطة عادة غريبة، فقد كانت:

"تُضرب الطبول والدّبادب في أوقات الصلوات وبكرة وعشية إشعارا بالموسم المبارك، وما تزال كذلك إلى يوم الصعود إلى عرفات، فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الخطيب إثر صلاة الظهر خطبة بليغة يعلّم الناس فيها مناسكهم ويعلمهم بيوم الوقفة، فإذا كان اليوم الثامن بكّرَ الناس بالصعود إلى منى، وأمراء مصر والشام والعراق وأهل العلم يبيتون تلك الليلة بمنى، وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر والشام والعراق في إيقاد الشمع، ولكن الفضل في ذلك لأهل الشام دائما، فإذا كان اليوم التاسع رحلوا مِن منى بعد صلاة الصُّبح إلى عرفة فيمرون في طريقهم بوادي محسّر، ويهرولون فيه، وذلك سنّة".

**

•وصف "الرحلة الحجازية":

المؤرخ والرحالة المصري محمد لبيب بك البتنوني الذي كُلف بتدوين رحلة الخديوي عباس حلمي الثاني بن الخديوي توفيق حاكم مصر، الذي قرر أن يحج ويؤدي شعيرة الله عام 1909م، حيث أسماها بـ"الرحلة الحجازية، ومما جاء فيها:

"وبعد نزول الحجاج جدة وبقائهم فيها مدة يوم أو يومين للراحة والنظافة كانوا ينطلقون إلى مكة عن طريق الهجن أو الحمير أو الأحصنة، ولم يكن عربات أو سيارات حينذاك".

ووصف البتنوني مشهد يوم الجمعة في الحرم المكي قائلاً: "لما صعد الخطيب المنبر صعد معه أحد الأغوات وجلس على الدرجة التي تلي قدميه، وهذه بلا شك عادة قديمة كانت للمحافظة على الخطيب أثناء اشتغاله بإلقاء الخطبة حتى لا تتسرب إليه يد أثيمة.. وعقب هذه الخطبة أنعم الجناب العالي على الخطيب بخلعة سنية ألبسه إياها سعادة حسين محرم باشا، ثم صلى الخطيب بالناس تحت جدار الكعبة المكرمة"...

وشاهد البتنوني وقوف الحجيج في عرفة، "وهم وإن انفصلوا في هياكلهم فإن قلوبهم مرتبطة ارتباط ذرّات الجسم الواحد ببعضها، وبعد صلاة العصر يتحرّك المحملان (المصري والشامي) بحرسهما إلى منحدر جبل الرحمة، وينهض خطيب عرفة (وهو في الغالب قاضي مكة الذي يتعين من قبل السلطان العثماني)، فيصعد بناقته إلى صدر هذا الجبل، ويخطب نيابة عن رسول الله خطبة يُعلّم الناس فيها مناسك الحج".

ويظل الناس يدعون ويلبون ويتضرعون إلى الله حتى إذا غابت شمس عرفة "أُطلق صاروخ من قِبل الخطيب إعلامًا بتمام الموقف، عندها تتحرك المحامل بين ضروب المدافع وعزف الموسيقات، وأصوات الابتهالات، وكثرة الدعوات، وانهمال العبرات، ويكون كل حاج قبل ذلك قد حمّل حمولة واستعد للإفاضة".

وفي منى شاهد البتنوني مراسم قراءة الفرمان العثماني "الشريف"، وهذا الفرمان كان يُرسل كل عام من اسطنبول إلى مكة يوصي فيه السلطان العثماني شريف مكة وحاكمها بالحجيج، ويرسل معه خِلعة سنية، وصرة المال، وهي جبة أو عباءة مطرزّة تقديرا لدوره، وكان لقراءة هذا الفرمان طقوس حيث تجتمع الحامية التركية وأشراف مكة وفق مراسيم معينة، وفي هذا السنة اجتمع معهم الخديو عباس حلمي الثاني، يصف البتنوني ذلك المشهد قائلاً: "أخذ في تلاوة الفرمان الذي كان يمسك بطرفيه اثنان من التشريفاتية، فتلاه بالتركية"...

**

•تجفيف اللحوم لأكله في العودة:

بعد إتمام الحج يعمد الحجاج إلى تجفيف اللحوم المتبقية من لحوم الهدي، وذلك بتشريح اللحوم وإضافة الملح إليها ليبعد الماء ويسرع في تجفيفه، ويسمى اللحم المجفف "القفر" فيأكلونه في طريق العودة، وقد يتبقى قليل منه ليأكله العائدون إلى ديارهم مع أهاليهم ويكون له طعم ومذاق خاص لا ينسى...

**

هكذا تنوعت مشاهد الحج بين الماضي والحاضر، رغم أن المناسك وشعائره تبقى واحدة على مر الزمان...

**

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

6 تموز 2022 19:43