زياد سامي عيتاني*
الفرق "المولوية" أو فرق "الدراويش"، التي تعرف ب"رقصة التنورة"، تسهم في إحياء ليالي شهر رمضان المبارك، تبهج تلك الليالي المضيئة، وتضفي عليها بحركاتها الدائرية وكأنها كواكب شمسية متلألئة، أجواءاً من التصوف وسمو الروح، خصوصاً وأنها تكون مصحوبة بالتواشيح والإبتهالات والأذكار، التي تساهم معاً في طهارة النفس البشرية ونقائها والإرتقاء بها إلى درجات عليا من الروحانيات والتُقي والخشوع.
**
فهي رقصات دائرية صوفية، علي أنغام قصائد الفيلسوف والشاعر التركي الصوفي جلال الدين الرومي، ستأخذك إلى عالم من الصفاء الروحي، تجعلك تشعر وكأنك تطهر نفسك من الهموم والذنوب، وذلك عندما يتراقصون ويلتفون بتلك الحركات الروحانية، منسجمين في عالم من الخشوع.
"فن التنورة"، لم يكن مجرد رقصة صوفية، أو حتي فن فولكلوري، فقد تحولت طيلة سبعة قرون مضت، منذ أن ظهرت في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، علي مولانا إبن الرومي، إلي تقليد احتفالي، دائما ما يأتي متبوعا بإيقاعات الذكر والمديح والمواويل الشعبية، إبتكرها جلال الدين الرومي ليحيي بها ليالي الذكر في التكية التي أنشأها لاستقبال الفقراء والغرباء وعابري السبيل والدراويش.
**
إذن يعود الفضل في نشأة الطريقة الصوفية التي عُرفت بإسم المولوية إلى مولانا جلال الدين الرومي، حيث أن طريقته مبنية على الخدمة الإلهية، إذ ينصرف دراويش الطريقة الذين كانوا يسكنون التكايا للعبادة وإقامة الذكر وقراءة الأوراد، فيقفون على هيئة حلقة كبيرة ويفتلون حول ذاتهم عشرات المرات، مؤدين الرقصة الصوفية التي تعرف باسم رقصة "المولوية" أو رقصة "التنورة".
**
ومولانا جلال الدين ولد سنة 1207 للميلاد في عاصمة خرسان التي صارت تعرف في عصرنا ب" افغانستان", وتركت عائلته موطنها واستقرت في الاناضول بتركيا. وتلقى تعليمه الروحي المبكر تحت إشراف والده وسيد برهان الدين البلحني.
وقد كان للقائه بالدرويش الصوفي الجوال شمس الدين تبريزي أثر في كل من حياته الفكرية والإبداعية.
وتوفي عام 1273 ميلادي في مدينة كونيا التركية وأُقيم له ضريح شيدت له قبة رائعة.
وبفضله إنتشرت الطريقة المولوية التي انطلقت من تركيا وحطت في كل من بلاد الشام والمغرب وآسيا، حيث إحتلت مكانة عالية في نفوس المتصوفين والزاهدين.
**
كان الذكر في تكية ابن الرومي يبدأ بعمل حلقة لا تقل عن 40 درويش، تختلف ألوان ملابسهم، هناك الأخضر والأحمر والأسود والأبيض، والحقيقة أن الباحثون لا يعلمون أسباب اختلاف هذه الألوان، يبدأ الدراويش بترديد لفظ الجلالة، مع كل هتاب بإسم الله ينحنون برؤوسهم وأجسادهم ويخطون في اتجاه اليمين، فتلف الحلقة كلها بسرعة، ثم يتجه أحدهم إلى وسط الحلقة ويلف حول نفسه بسرعة وهو فارد ذراعيه، فتنتشر تنورته على شكل مظلة أو شمسية، ثم ينحني أمام شيخه الذي يجلس داخل الحلقة، ويعود للذكر مع باقي الدراويش.
**
والفرق "المولوية" تعتمد على طريقة الدوران من جهة اليمين إلى اليسار، وهي ذات طابع ديني رمزي، إذ أن الطواف حول الكعبة المشرفة يتم بهذا الشكل. كما أن دوران الفرق "المولوية" تعتبر طريقة من طرق التصوف وعلاقة الروح بالخالق، التي تسمو كلما طالت فترة الدوران وتوحدت بسكينة وإخلاص.
أما حركات الأيدي فهي رفع اليد اليمنى إلى الأعلى وتعني طلب المدد من الله عز وجل، واليسرى بإتجاه الأرض وتعني الزهد بالدنيا وملذاتها ورغباتها.
**
"اللفيف"، هكذا يطلقون على راقص التنورة، فهو يرتدي تنورتين أو ثلاثة، يصل وزن الواحدة منها 8 كيلوجرام، ويبلغ قطرها 7 أمتار، وعرضها حوالي متر، كما يرتدي حزاما على نصفه الأعلي يسمى "السبته"، هذا الحزام يجعله قادرا على شد ظهره وهو يدور حاملا كل هذا الحمل، بينما يتسع الجلباب من الأسفل ليعطي الشكل الدائري.
والحقيقة أن ملابس راقصي التنورة في "تركيا" انتشرت بشكل تقليدي مثير للملل، ولا يضفي على الرقصات أي نوع من الجماليات، فكان الراقص في حلقات الذكر يلف جسده بتنوره، ثم يرتدي جلباب أبيض وصديري أبيض، يليه "جيب" يتدلي من الوسط إلى أسفل، ويضع على رأسه طربوشا أبيض، ولكن الفنان المصري كعادته، أضاف لمساته الجمالية على ما يرتديه، ففي بداية الثمانينات اهتم بتلوينه، فأصبح زي الراقص متوفر بألوان مختلفة.
**
ومع بداية التسعينات بدأ التطوير يلمسه بشكل أكبر، فأدخل عليه الزخرفة والخطوط الهندسية، وفي عام 2000 جعل التنوره من قماش الخيام الخشن، فوق الجلباب، وزخرفه بأشكال إسلامية، وهو شغل يدوي يُصنع في حي الحسين والغورية في شارع الخيامية بالقرب من باب زويلة إمتدادا للغورية في القاهرة، وفي عام 2006 بدأ يدخل التطريز بالكمبيوتر على الزي، وأخيرا أضيفت الإضاءة إلي التنورة، فتحولت إلي أشهر الفنون التراثية الشعبية التي تشتهر بها مصر والتي تجذب العديد من الجماهير بمختلف طبقاتها وأعمارها وتحظى بإهتمام السائحين الذين يقبلون بشكل كبير على حفلاتها وينبهرون بها.
في الختام وبالرغم أن رقصة التنورة أصبحت تراثاً ولوناً من الوان الفولكلور الاسلامي, فإن الفرق المولوية التي لا تزال موجودة في عدد تكايا تركيا وسوريا ولبنان وبعض أقطار المشرق, تدخل في قلوب مشاهديها وسامعيها شعور يمتزج فيه الحزن والورع بالسرور والسكينة وتولد في النفوس مشاعر متجددة.
**
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.