11 نيسان 2021 | 15:14

منوعات

مصر كانت تستطلع هلال رمضان بمواكب الرؤية والطقوس الإحتفاية

مصر كانت تستطلع هلال رمضان بمواكب الرؤية والطقوس الإحتفاية

زياد سامي عيتاني - إعلامي وباحث في التراث الشعبي


ما أجملها من ليلة، تجتمع فيها القلوب بكل الحب شوقًا لشهر كريم مبارك، تسوده نسمات من الرحمة والترابط والمحبة، ليلة يجتمع فيها كل أفراد الأسرة وكل الأهل والجيران والأصحاب يحتفلون بدخول أيام رمضان بفرحة كبيرة، إنها ليلة رؤية هلال شهر رمضان...

**

•طقوس الرؤية:

تختلف طقوس استطلاع هلال شهر رمضان المبارك من بلد إلى آخر، وعلى الرغم من اختلاف تلك الطقوس بين الأمس واليوم، فإن فرحة استقبال الشهر الفضيل تبقى العامل المشترك بين المسلمين في بقاع الأرض...

فالشهر العربي يرتبط بمقدم الهلال وظهور علاماته، وهذا ما ينسحب على صومُ رمضان لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في صحيحيْ البخاري ومسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ».

ولهذا كان المسلمون يتحرّون رؤية هلال رمضان بصورة دقيقة وبحسب إمكانياتهم في كل بلدة وقُطر...

**

*القضاة يتحرون الهلال في مصر:

فقد أخبرنا ابن خلّكان (ت 681هـ) في (وفيات الأعيان): أن محدّث مصر عبد الله بن لهيعة الحضرمي (ت 172هـ) الذي عينه الخليفة العباسي المنصور (158هـ) سنة (155هـ) قاضيًا بمصر، كان أول قاض حضر لنظر الهلال في شهر رمضان، واستمر القُضاة عليه إلى الآن". واستمرت تلك العادة على الأقل حتى أواسط القرن الثامن الهجري، فقد جاء الرحالة المغربي ابن بطوطة (ت 779هـ) إلى مصر عام (725هـ) فشاهد المراسيم الخاصّة بتحري هلال رمضان في مدينة أبيار شمالي مصر، حين نزل في ضيافة قاضي تلك المدينة عز الدين المليجي الشافعي (ت 793هـ). ويقول في رحلته:"حضرتُ عنده مرة (يوم الركبة) وهم يُسمون بذلك يوم إرتقاب هلال رمضان. وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، فإذا تكاملوا هنالك ركب القاضي وركب مَن معه أجمعين، وتبِعهم جميع مَن بالمدينة من الرجال والنساء والعبيد والصبيان، وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مُرتقب الهلال عندهم، وقد فُرش ذلك الموضع بالبُسط والفُرش فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب، وبين أيديهم الشمعُ والمشاعل والفوانيس، ويُوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويَصل الناس مع القاضي إلى داره ثم ينصرفون، هكذا فِعلهم كل سنة".

**

•مواكب الرؤية:

وتعتبر مصر من أقدم الدول العربية التي احتفت باستقبال شهر رمضان، حيث ظلت تستطلع الهلال بالعين المجردة، حتى بدأ العمل بالحساب الفلكي لأول مرة في 1375هـ 1956م، بعد أن تعذرت الرؤية بالعين.

ومنذ القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) بدأت مواكب التثبت من قدوم رمضان، حيث "كان قاضي العاصمة يتوجّه إلى جبل المقطم شمال شرقي القاهرة للتثبُّت من رؤية الهلال، ومن ثم يعود وصحبته معلنين البداية الموثوقة لشهر رمضان".

وتشير روايات عديدة إلى أن نسبة مظاهر الاحتفاء برمضان إلى الفاطميين ليست دقيقة، وأن تلك المظاهر بدأت في العصر المملوكي، وذلك عبر موكب يتكون من قاضي القضاة والقضاة الأربعة كشهود ومعهم الفوانيس والشموع.

ويشترك معهم المحتسب وكبار تجار القاهرة ورؤساء الطوائف والصناعات والحرف، وكانوا يشاهدون الهلال من منارة مدرسة السلطان منصور بن قلاوون، فإذا تحققوا من رؤيته أضيئت الأنوار على الدكاكين والمآذن وتضاء المشكاوات في المساجد.

ثم بعد ذلك يخرج قاضي القضاة في موكب تحفّ به مجموعات من الشعب حاملة المشاعل والفوانيس والشموع حتى يصل إلى داره، ثم تتفرّق الطوائف إلى أحيائها معلنين الصيام.

كما كانت تقام مواكب مماثلة في العصر العثماني، وخلال الحملة الفرنسية، وفي عهد محمد علي، أما في العصر الحديث فكان الملك فاروق يطلب من الحكومة أن يكون الاحتفال برمضان بالغاً أقصى حدوده.

**

صيام صيام، على ما حكم قاضي الاسلام:

وبعد ثبوت الرؤية رؤية الهلال، يخرج من بيت القاضي موكب عظيم يسير فى مقدمته الوالى، ومن ورائه الشرطة على ظهور الجياد الأصيلة فى اللباس العسكرى الشرقى (وهو سروال أو قفطان وجبة وخنجر فى الحزام وسيف يتدلى إلى اليمين) وخلفهم طوائف العمال. وعلى رأس كل طائفة «معلمها» الذي يشرف على شئونها ويتقدم هذا الموكب ويمشى على جانبيه ومن خلفه حملة المشاعل، وأمام الجميع المنادون يهتفون: «صيام. صيام. على ما حكم قاضى الإسلام!» ويطوف الموكب أحياء المدينة حياً حياً.

**

•في العهد المملوكي:

أمّا الاحتفال بحلول شهر رمضان ورؤية هلاله فى العصر المملوكي، فكان قاضى القضاة يخرج لرؤية الهلال ومعه القضاة الأربعة كشهود ومعهم الشموع والفوانيس، ويشترك معهم المحتسب وكبار تجار القاهرة ورؤساء الطوائف والصناعات والحِرَف.

وكانوا يشاهدون الهلال من منارة مدرسة المنصور قلاوون المدرسة المنصورية «بين القصرين» لوقوعها أمام المحكمة الصالحية «مدرسة الصالح نجم الدين بالصاغة»، فإذا تحققوا من رؤيته أضيئت الأنوار على الدكاكين وفى المآذن وتضاء المساجد، ثم يخرج قاضى القضاة فى موكب تحف به جموع الشعب حاملة المشاعل والفوانيس والشموع حتى يصل إلى داره، ثم تتفرّق الطوائف إلى أحيائها معلنة الصيام.

يخبرنا ابن إياس عما حدث سنة 920 هجرية في عهد السلطان قنصوه الغوري، فيقول: "وأما في ليلة رؤية الهلال حضر القضاة الأربعة المدرسة المنصورية، وحضر الزيني بركات بن موسى المحتسب، فلما ثبتت رؤية الهلال وانفض المجلس ركب الزيني بركات من هناك. فتلاقاه الفوانيس والمنجانيق والمشاعل والشموع الموقدة، فلم يحص ذلك لكثرته. ووقدوا له الشموع على الدكاكين وعلَّقوا له التنانير والأحمال الموقدة بالقناديل من الأشاطيين إلى سوق مرجوش إلى الحباشية، إلي سويقة اللبن، إلى عند بيته (بيت الزيني بركات)". ثم يكمل ابن إياس بما يفيد أن القضاة الأربعة والمحتسب كانوا يتجهون إلى السلطان، لتهنئته بحلول شهر رمضان. ثم يعرض الوزير والمحتسب اللحم والدقيق والخبز والبقر والغنم على السلطان (تموين الولائم السلطانية) كما جرت العادة، حيث يحمله الحمَّالون على رؤوسهم وأمامهم الطبل والمزامير، ويمرّ هذا الموكب في طرقات القاهرة المضاءة بالفوانيس والشموع المعلقة في الشوارع والدكاكين، كما كان الناس يطلقون البخور بطول الطريق.

-تزيين الحوانيت بالقناديل:

وكان الرحالة التركي الشهير أوليا جلبي، الذي طاف بالعالم الإسلامي في أواخر القرن السابع عشر واستغرقت رحلته 23 عامًا، قد أشار إلى وجود طائفة في مصر تسمى "القندلجية" تضم نحو 200 فردًا، كان عملهم بالتحديد هو تزيين الحوانيت وإضاءتها بالقناديل في ليالي رمضان وفي ليالي الموالد الدينية.

-عيد النسوان:

لكن وصفًا للموكب يورده أوليا جلبي يفاجئنا بظهور عنصر جديد في مظاهر الاحتفال، فقد ذكر أن العارفين بعادات الناس عن قرب تحدثوا عن الاحتفال بموكب الرؤية حيث أطلقوا عليه "عيد النسوان"، وذلك لأن النساء يعتبرن أن الليلة ليلتهن، ولا بد لكل منهن المشاركة في الاحتفال والتوجه للفرجة على الموكب، حتى أن البعض يشترطن في وثيقة عقد الزواج حقهن في الخروج للاحتفاء بليلة الرؤية! وهذا يقام قبل أسبوع من بداية الاحتفال باستئجار الحوانيت في الأسواق السلطانية، أو يذهبن إلى بيوت معارفهن المطلة على مسار الموكب.

"وخلاصة الكلام أن بعض الرجال لا يستطيعون سؤال أهاليهم وعائلاتهم قائلين: "أين كنت هذه الليلة؟"، بحسب ما يورد أوليا جلبي في كتابه، ثم يجمل ملاحظاته حول هذا الاحتفال بالقول: "وجميع أهالي مصر ينتهزون فرصة أن الليلة ليلة غرة رمضان المعظّم ويقضون ليلتهم في طرب ومرح وصفاء".

**

•في العهد العثماني:

وفي عصر الإمبراطورية العثمانية في التاسع والعشرين من شعبان، كان القضاة يجتمعون وبعض الفقهاء بالمدرسة المنصورية في "بين القصرين"، ثم يركبون جميعًا يتبعهم أرباب الحرف وبعض دراويش الصوفية إلى موضع مرتفع بجبل المقطم، حيث يترقبون الهلال، فإذا ثبتت رؤيته عادوا وبين أيديهم المشاعل والقناديل في موكب حافل يحيط به أرباب الطرق والحرف.

***

•خلال الحملة الفرنسية:

وفي زمن الحملة الفرنسية في مصر، يشير عبد الرحمن الجبرتي

وفي ليلة الرؤية، كان قاضي القضاة والمحتسب ومشايخ اليدوان يجتمعون ببيت القاضي، وعند ثبوت الرؤية يخرجون في موكب تحيط بهم مشايخ الحرف و"جملة من العساكر الفرنساوية"، وتطلق "المدافع والصواريخ من القلعة والأزبكية"!

وكان جاسبار دي شابرول، أحد أبرز علماء حملة نابليون بونابرت على مصر في 1798، قد أعد دراسة مهمة بعنوان "عادات وتقاليد سكان مصر المحدثين" نُشرت ضمن موسوعة "وصف مصر" الشهيرة، وتحدّث فيها عن أعياد المصريين التي تعود إلى أصول دينية، وأشار إلى موكب رؤية هلال رمضان. ويذكر جاسبار دي شابرول أنه إذا كانت ليلة الرؤية يخرج قاضي القضاة والمحتسب ومشايخ الديوان، يحيط بهم الدراويش وعامة الناس، حاملين القناديل والمشاعل والمباخر، وعند ثبوت الرؤية يتوجهون جميعًا إلى القلعة لتهنئة الوالي، وتضاء أمام الحوانيت القناديل والشموع وتنتشر المباخر بأشكالها الجميلة تتضوّع منها روائح ذكية.

ويذكر وليام إدوارد لين في مشاهداته لطقوس ليلة الرؤية عام 1835 أن بعض الأشخاص الثقات يتوجهون إلى الصحراء المجاورة لرؤية الهلال، وبعد التثبت من رؤيته ينطلق المحتسب وشيوخ بعض التجارات والحرف وفرق الموسيقى والمتصوفة، يتقدمهم الجنود، في موكب من القلعة إلى محكمة القاضي (بيت القاضي)، ويغنون وهم سائرون: "بركة، يا بركة، بارك الله عليك، يا رسول الله، السلام عليك".

ينتظرون عودة من توجهوا لاستطلاع الهلال، وبعد أن يصل الخبر برؤية الهلال ينقسم الجنود والمحتشدون إلى فرق، يعود فريق منهم إلى القلعة، بينما تطوف الفرق الأخرى في أحياء المدينة المختلفة هاتفة: "يا أتباع أفضل خلق الله، صوموا، صوموا"، أما إذا لم يروا الهلال في تلك الليلة فينادي المنادي: "بكرة شعبان، ما فيش صيام". وعند إعلان الصيام تتلألأ المساجد بالأنوار، كما في الليالي المتعاقبة، وتعلّق المصابيح عند مدخلها وفوق المآذن (مثل الأوصاف السابقة عليه في الأزمنة الماضية).

**

•بداية القرن العشرين:

ومع بداية القرن العشرين، يؤكد المؤرخون أنه في عصر الخديو عباس حلمي الثاني، انتقل إثبات رؤية هلال شهر رمضان إلى المحكمة الشرعية بباب الخلق، حيث كانت مواكب الرؤية، تخرج إلى المحكمة الشرعية وكان يضم الموكب موكبًا لأرباب الحرف على عربات مزدانة بالزهور والأوراق الملونة، وموكب الطرق الصوفية بالشارات والرايات والبيارق، وفرقًا رمزية من الجيش والشرطة بموسيقاها المميزة واستمر هذا الموكب بطقوسه علي حاله لفترات طويلة بمصر.

-الخديوي يستقبل المهنئين:

في شهر رمضان عام 1900م والذي كان يوافق شهر يناير في فصل الشتاء نشرت الوقائع المصرية، السماح لطبقة الباشوات والأغنياء بزيارة الخديو، وقالت الوقائع: "إنه بمناسبة حلول شهر رمضان المعظم، تقابل صاحبة الدولة والعصمة والدة الجناب الخديو وصاحب الدولة والعصمة الحرم المصون، حضرتك المهنئات الوطنيات بسراي القبة العامرة ليلة الأربعاء (مساء يوم الثلاثاء 2 يناير سنة 1900) من الساعة واحدة ونصف إلى الساعة 5 مساء".

-إطلاق المدفعية:

نشرت الحكومة المصرية قراراً في عام 1918م يقول "لإثبات رؤية هلال شهر رمضان المبارك مساء غدٍ، وقد أمر تلامذة المدرسة الحربية ومعهم الموسيقي البيادة موسيقي القرب التابعة "للأورطة" الثامنة "البيادات"، يشتركون في هذا الموكب بقيادة الصاغ أحمد افندي فهمي وفائي من "الأورطة" الثامنة البيادة، وأمر قومندان الطوبجية،أن يطلق 21 مدفعًا من القلعة يوم الرؤية متى تثبت رؤية هلال شهر رمضان المعظم، وأن تطلق المدافع المعتادة مدة شهر رمضان المعظم من القلعة والجزيرة والعباسية، ويجري مثل ذلك أيضًا، في أول شهر رمضان، وفي أثنائه، وفي الإسكندرية وبورسعيد.

**

أما الآن، فقد تقلّصت مظاهر الاحتفال، إذ تخرج فرقة من فرسان الشرطة، عصر يوم الاحتفال، متجهة إلى دار الإفتاء المصرية حيث يقام سرادق كبير لاستقبال الوزراء وكبار الضيوف من العلماء ورجال الدين، فإذا ما ثبتت رؤية الهلال تحرّرت بذلك "الوثيقة الشرعية"، وعقب الاستماع إلى آيات من القرآن، يلقي سماحة مفتي الجمهورية كلمته التي تُبث من خلال التلفزيون والراديو، معلنا النبأ...

**





يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

11 نيسان 2021 15:14