27 تموز 2020 | 07:58

أخبار لبنان

كي لا تموت دولة لبنان الكبير

كي لا تموت دولة لبنان الكبير

‏‬افتتاحية النهار - بقلم‬ ‫الدكتور فيليب سالم‬‏


في 1 أيلول 1920، ولدت دولة لبنان الكبير. ولد لبنان كبيراً، فماذا حدث حتى اصبح اليوم ‏صغيراً؟ مئة عام مضت، فبدل ان تتعاظم الدولة ويعلو شأنها، أصبحت الدولة دويلة. دويلة في ‏دولة "حزب الله". دويلة في محور الممانعة. هذا المحور الذي يتمدد في الأرض من إيران الى ‏اليمن الى العراق الى سوريا الى لبنان. هذا اللبنان الذي ولد ليحمل مجد الشرق كله، انزلق به ‏حكامه الى مستنقع الشرق. من أجل ذلك، تفجر الألم في صدر البطريرك الماروني، سيد بكركي، ‏والمؤتمن على ما تبقى من "مجد لبنان الذي أعطي له" والمؤتمن أيضاً على حلم البطريرك الياس ‏الحويك الذي انتزع دولة لبنان الكبير من رحم مؤتمر فرساي. وصرخ البطريرك بأعلى صوته ‏‏"ارفعوا أيديكم عن لبنان"، كما طلب من "الشرعية اللبنانية" فك الحصار عن القرار اللبناني ‏الحر‎.‎

لكن سيد بكركي يعرف جيداً ان لُب المشكلة يكمن في "الشرعية اللبنانية"، أو ما يسمى "الشرعية ‏اللبنانية". ان "الشرعية اللبنانية" هي التي جاءت بالحصار على القرار اللبناني الحر. سياسيون ‏فاسدون. رجال صغار، لا ولاء لهم للبنان، جاؤوا بالقوى الإقليمية وجعلوها سلّماً يتسلقونه الى ‏السلطة على حساب عظمة لبنان وكرامة شعبه. هم، لا غيرهم، جاؤوا بالوصايات التي توالت ‏على هذا الوطن. ستون سنة من الحصار على القرار اللبناني الحر. ستون سنة يتنقل لبنان رهينة ‏من زنزانة الى زنزانة. من الوصاية الفلسطينية الى الوصاية السورية الى الوصاية الإيرانية. من ‏سيحرر هذه الرهينة؟ هذه الرهينة لن تحررها "الشرعية اللبنانية". سيحررها الثوار‎.‎

نحن لا نريد ان يكون طرح البطريرك لمبدأ الحياد طرحاً مسيحياً. نريده طرحاً وطنياً. طرحاً ‏لبنانياً. لقد تعلمنا من الماضي. من تجارب الفشل المتكررة. من طاولات الحوار الى المؤتمرات ‏الوطنية. كلها كانت ضجيجا بالكلام. قوة واحدة نريد الالتقاء معها لإرساء عقد جديد هي قوة ‏‏"حزب الله". من هنا لا بد ان نتوجه الى "حزب الله" ونقول له: قلنا من قبل ونعيد القول اليوم. ‏‏"نحن وإياكم أهل هذه الأرض وتجمعنا محبتها". ان النموذج الإيراني للدولة الإسلامية هو نموذج ‏مغاير للنموذج اللبناني ولن نقبل به. هذا اللبنان هو وطن الرسالة. في هذه البقعة الصغيرة من ‏الأرض تنصهر جميع الأديان وجميع الحضارات. من حضارة الشرق الى حضارة الغرب. ‏وعندما انجز استقلال لبنان سنة 1943 أعلنت الدولة ميثاقها بالحياد بين الشرق والغرب. لكننا ‏جئنا لنقول اليوم إن لبنان هذا هو الشرق وهو الغرب. هذا اللبنان هو نموذج صغير للعالم كله. انه ‏ايقونة الشرق. انه رمز التعددية الحضارية في هذه المنطقة من العالم. صلاتنا ان تعودوا الى ‏حضن لبنان. وان عدتم سيعانقكم لبنان بكل محبته‎.‎

‎‫‎من هنا نحن نتطلع الى اليوم الذي يقف فيه الأستاذ نبيه بري بصفته رئيساً لمجلس النواب ‏وبصفته أيضاً رئيساً لحركة "أمل"، ويلاقي البطريرك في طرحه لمبدأ الحياد. بهذا يتحقق الوفاق ‏الداخلي على الحياد.‬‏

‎‫‎ونريد هنا ان نشدد على أن الوفاق الداخلي وحده لن يكون كافيا لإرساء سياسة الحياد الفعلية. إن ‏الحياد في لبنان يحتاج الى ضمانة دولية. ولتوفير هذه الضمانة يجب العودة الى الأمم المتحدة ‏ومجلس الامن ويجب تفعيل العلاقات المميزة التي تربطنا بدولة الفاتيكان والدولة الفرنسية. لن ‏يكون هناك حياد ان لم يضمن مجلس الأمن إرساء آلية فاعلة لدعم حياد لبنان. هذه الآلية يجب ألا ‏تكون محصورة بالدعم السياسي بل يجب ان تتخطى السياسة لدعم الامن في لبنان. فلبنان ‏مصلوب في جغرافية الأرض بين دولة عدوة لا تريده وتخاف من نموذجه، اسمها إسرائيل؛ ‏ودولة لا تعترف باستقلاله، اسمها سوريا.‬‏

ونحن من سنوات ندعو الى الانتقال من اكذوبة النأي بالنفس الى الحياد. وفي المنتدى الاجتماعي ‏الاقتصادي الدولي الذي انعقد في بكركي بين 9 و11 تشرين الثاني 2018 في رعاية البطريرك ‏وحضوره، قلت في افتتاح المؤتمر: "للخروج من هذا النفق المظلم يجب إرساء مبدأ الحياد"، ‏واقترحت يومها كما اقترحت من قبل وفي افتتاحيات متعددة في جريدة "النهار" ان نطلق على ‏هذا الحياد تسمية الحياد الفاعل بدل الحياد الإيجابي للتشديد على ان يكون هذا الحياد فاعلاً ‏لمصلحة لبنان. ان وصف الحياد بالإيجابي هو وصف غير دقيق. لقد استعملت هذا المصطلح بعد ‏الحرب العالمية الثانية دول أوروبية وآسيوية أرادت ألّا تلتحق يومها لا بالمعسكر الأميركي ولا ‏بمعسكر الاتحاد السوفياتي‎.‎

كان يجب ان نطالب بهذا الحياد الفاعل من زمان. منذ نشوء الحروب اللبنانية سنة 1975 . وكم ‏اخطأنا يوم كنا نعتقد ان خروج الجيوش الأجنبية من جيش منظمة التحرير الفلسطينية الى الجيش ‏السوري سيؤمن لنا السيادة والاستقرار. وحده الحياد الفاعل بضمانة دولية، ضمانة سياسية ‏وأمنية، يؤمن لنا هذه السيادة وهذا الاستقرار. وعلى رغم أننا تأخرنا 45 سنة، فلا أزال أعتقد ان ‏الظروف اليوم مؤاتية للوصول الى هذا الهدف. فأميركا وايران في حرب باردة، لكنها قاسية ‏جداً. ساحة هذه الحرب هي لبنان، معقل "حزب الله". وكل ما نراه من أعراض لهذه الحرب من ‏انهيار اقتصادي في لبنان، وعقوبات على ايران، وضربات عسكرية إسرائيلية متتالية لمواقع ‏إيرانية في سوريا، كلها من أجل الضغط على ايران والمجيء بها الى طاولة المفاوضات. وليس ‏سراً ان إدارة الرئيس ترامب تجري اليوم مفاوضات معمقة في السر وفي العلن مع ايران ‏للتوصل الى صفقة يعلنها الرئيس ترامب في تشرين الأول لتنتشله من الهوة التي وقع فيها ‏ولتؤمن فوزه في الانتخابات الرئاسية. هذه الصفقة تهدف الى التأكد من ان ايران لن تتمكن، أقله ‏في المستقبل المنظور، من تطوير قنبلة ذرية. هذه المرة لن تكون حدود الصفقة محدودة بالملف ‏النووي، بل ستتعداه الى ملف الصواريخ الباليستية والملف الأهم التمدد الإيراني في الشرق ‏العربي. واذا نجحت هذه الصفقة سيكون "حزب الله" ضحيتها الأولى. ولكن بالطبع لن تقدم ايران ‏هذه الهدية للرئيس ترامب ما لم تتأكد من إمكان فوزه في الانتخابات‎.‎

ويهزأ منا اللبنانيون اذ نحن نتكلم عن الحياد وهم في فقر مدقع وذل كبير وخوف أكبر. إلّا أنهم ‏قد لا يعرفون انه من اهم الأسباب التي أدت بنا الى هنا هو عدم إرساء سياسة الحياد. ان كل ‏الوصايات التي توالت على "حكم" لبنان كانت تشجع وتشرعن الفساد. كان ذلك تكتيكا يستعمله ‏أهل الوصاية لكي يصبح السياسي اللبناني الفاسد دمية في أيديهم‎.‎

هناك مرض خبيث يفتك بنا. ان علة العلل ليست في الطبقة السياسية التي حكمت لبنان بقدر ما ‏هي في العقل السياسي اللبناني والثقافة السياسية التي أفرزت هذه الطبقة. فإن نجحت الثورة في ‏تغيير الطبقة السياسية ولم تنجح في تغيير الثقافة السياسية، تعود الأخيرة وتفرز طبقة جديدة ‏وتكون هذه الطبقة مصابة بالمرض نفسه. هذه الثقافة تؤمن بان الحكم وجاهة، ليس مسؤولية. ‏بان السلطة هي لرفع شأن الحاكم لا لرفغ شأن الوطن. وبأن المواطن هو خادم للسلطة وليس ‏العكس‎.‎

من أجل ذلك كله نعود لنقول "إن الذين اخذوه الى حافة الموت لا يمكنهم ان يعيدوه الى الحياة". ‏الثورة وحدها ستعيده الى الحياة. ومن يراهن على ان الثورة تحتضر فهو على خطأ كبير. ‏فالثورة ليست فقط أولئك الذين يملأون الشوارع ويصرخون مطالبين بحقوقهم وحقوق الوطن. ‏فالثورة هي أيضاً الغضب الذي يتفجر في النفوس، والالم الذي يتعمق في قلوبنا. انها إرادة ‏الشعب للتغلب على الموت. إرادة الشعب لاسترجاع الكرامة. نحن نعيش اليوم في لبنان المزور. ‏لقد اشتقنا الى لبنان الحقيقي. الى لبناننا‎.‎

وصلاتنا، كل صلاتنا، ان يقتنع اللبنانيون، كل اللبنانيين، بنهائية لبنان، وبأن عظمة لبنان لا ‏تكمن في انتمائه الى العالم العربي أو الى سوريا الكبرى أو الى الشرق الأوسط أو إلى دول البحر ‏الأبيض المتوسط. ان عظمته تكمن في ذاته. في انه لبنان‎.‎

‎"‎نسجد لآلامك أيها الوطن الصغير" وسنُبقي شمعة الأمل مضاءة طوال الليل وننتظر "قيامتك ‏المجيدة‎".‎

النهار ‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

27 تموز 2020 07:58