زياد سامي عيتاني*
بمناسبة ذكرى رحيل الفنانة اللبنانية نور الهدى "راهبة الفن" (٩ تموز ١٩٩٨)، لا بد أن نستعيد بالذاكرة بعضاً من تاريخها ومسيرتها الحافلة، رغم قصر سنواتها، كتحية لهذه الفنانة الأصيلة والعريقة بفنها وعطائها، التي شاء قدرها أن تعتزل مبكراً، بعدما عاندها الحظ، وتآمرت عليها زميلات جيلها!!!
بشكل مفاجئ كان ظهورها، وبشكل مفاجئ أيضاً كان إختفاؤها، وما بينهما مسيرة فنية، إختلط فيها "المجد والدموع" كعنوان لأشهر أفلامها، لكنها نجحت في أن تفرض نفسها كإحدى أيقونات "الأوبريتات" و"الدويتوهات" الغنائية ما بين منتصف الأربعينيات وحتى رحيلها المفاجئ عن مصر بداية الخمسينات...
المفارقة الغريبة في خلال طفولتها، أن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب حينما إستمع لها في عمر التسع سنوات وهي تغني "يا جارة الوادي" وأعجب كثيراً بصوتها، لم يكن يدرك في حينه أنها ستغني معه لاحقاً أغنيته الشهيرة "شبكوني ونسيونى قوام" وتظهر معه في آخر أفلامه "لست ملاكاً" عام 1946.
**
•من الترتيل إلى الغناء المدرسي:
إسمها الأصلي ألكسندرا نقولا بدران، وإسمها الفنى "نور الهدى"، وهو الذي إختاره لها يوسف بك وهبي.
ولدت ألكسندرا نقولا بدران، في 24 كانون الأول (ديسمبر) عام 1924، بمدينة مرسين التركية، لوالدين من أصل لبناني، تمكنت من إظهار طاقاتها الصوتية في وقت مبكر من طفولتها حين كانت تؤدى التراتيل في الكنيسة الأرثوذكسية.
ظهر تميز صوتها حين كانت تغنى في المدرسة والحفلات الخاصة، وأطلقوا عليها إسم "أم كلثوم لبنان".
**
•والد فريال كريم يقنع أباها بالغناء:
كان والد نور الهدى ينظم الزجل اللبناني، وكان يطرب لسماع أغاني عبد الوهاب وفتحية أحمد، وبالزغم من ذلك، مع إدراكه لجمال صوت إبنته، فأنه كان يرفض بشكل قاطع بأن تحترف الغناء، لأنه كان محافظاً ومتشدداً في تربيته لها.
لكن زوج عمتها بشارة سمعان (والد الفنانة الراحلة فريال كريم)، كان يشجعها سراً على الغناء لإيمانه بما سينتظرها من نجاح في المستقبل، فصار يصطحبها دون علم أبيها عند الموسيقي خالد أبو النصر ليلقنها دروساً في الموسيقى، وليكن لاحقاً مؤلف أول أغنية "لها ليلى إن هجرتك فلن أنساكِ".
أمام هذا الأمر الواقع، رضخ الوالد أمام طموحات إبته، شرط أن يرافقها في كل تحركاتها وسكناتها، فإنطلقت ألكسندرا بدران تغني في مقاهي بيروت وطرابلس، ثم في دمشق وحلب، إلى أن دخلت الإذاعة اللبنانية في بداية بثها.
**
•إنطلاقتها الحقيقية في سوريا:
تعاقدت نور الهدى عام 1939 على الغناء في ملهى بسمار في دمشق (مقهى الكمال اليوم)، وكانت تغني فيه وقتذاك مطربة القطرين فتحية أحمد التي شجعتها على غناء الأدوار والقصائد.
وفي دمشق التي شهدت انطلاقتها الحقيقية لازمت عازف العود القدير عمر النقشبندي الذي علمها عزف بالعود، ورافق غناءها بعوده، وسافر معها إلى اللاذقية ثم إلى حلب، حيث أحدثت ضجة كبيرة بغنائها المتقن وبصوتها ذي البحة الخاصة.
وفي حلب اتصلت بأهل الفن فأخذت عنهم أصول غناء الموشحات، وتتلمذت على الملحن القدير بكري الكردي الذي صحح لها بعض الهنات في أدائها الغنائي وغنت من ألحانه دَوْر "القلب مال الجمال".
**
•يوسف وهبي ينقلها إلى السينما:
سنحت الفرصة لألكسندرا، حين استمع إليها عميد المسرح العربي يوسف بك وهبي، في حلب عام 1942، وعرض عليها المشاركة في فيلمين هما "جوهرة" عام 1943، و"برلنتي" عام 1944، واختار لها إسمها الفني الذي لازمها، وعرفه الجمهور " نور الهدى "، ولم يكن ظهورها مشاركة فقط، بل كانت "بطولة مطلقة"، وهكذا كان الظهور الأول ل نور الهدى في دور البطولة.
وخلال هذين الفيلمين غنت نور الهدى ، على موسيقى الفرسان الثلاثة من ملحني أم كلثوم ، وهم: رياض السنباطي، وزكريا أحمد، ومحمد القصبجي، وقد جمعت هذه الأغنيات بين الرشاقة الموسيقية التي لم تخل من النزعات التجريبية، فغنت للسنباطي أغنية "يا أوتومبيل"، وللشيخ زكريا أحمد، "أه من عذابي"، وللقصبجي "خطوة بخطوة".
**
•مشاركة عبد الوهاب البطولة:
في سابقة كانت الأولى من نوعها، وقفت نور الهدى في العام 1946 أمام الموسيقار محمد عبد الوهاب تؤدى البطولة أمامه في فيلم "لست ملاكا"، وخلال هذا الفيلم شاركت بالغناء في 4 "دويتوهات"، في سابقة لم تحدث في أفلامه، التي شاركته البطولة فيه مطربات أخريات.
**
•"ديويتو" مع محمد فوزي:
أما الظهور الثاني فقد كان أمام الموسيقار محمد فوزي، في فيلم "مجد ودموع"، وقد كان بداية تعاون فني أثمر عن فيلمين آخرين هما " قلبي يا أبى، ونرجس"، وخلال هذه الأفلام شاركت نور الهدى ، محمد فوزي، في غناء الأوبريتات مثل "الأوكازيون، وست الحسن"، أو الدويتوهات مثل "تعالى أقولك".
**
•فريد يرى فيها الصوت الأسمهاني:
في هذا الوقت كان فريد الأطرش يبحث عن صوت غنائي يعوضه صوت شقيقته أسمهان، فوجد في نور الهدى ، لمحة من الصوت الأسمهانى، حيث إستطاع أن يكون ثلاثياً ناجحاً عبر مزج صوته بصوت نور الهدى ، ووظف موسيقاه على رقصات سامية جمال في فيلمين من أفلامه عام 1951، وهما "ما تقولش لحد" و"عايز أتجوز".
وخلال هذين الفيلمين قدما مجموعة من الأوبريتات مثل "قمر الزمان"، و"ما تقولش لحد"، أو عبر الدويتو الغنائي مثل أغنية "ما لكش حق"، كما قدم لها بعض الأغنيات الخفيفة الرشيقة مثل "يا ساعة بالوقت إجرى".
**
•أم كلثوم تبعدها عن مصر؟!
وفي تلك الفترة من حياتها إحتجت عليها بعض الفنانات بأنها تأخذ مكانهن في الغناء والتمثيل، إضافة إلى أنها غير مصرية، وأثارت حفيظتهن، في وقت كانت فيه السينما المصرية تشهد فنافسة شديدة بين مطرباتها على المشاركة في أدوار البطولة، فرفعن الأمر إلى نقابة السينمائيين التي أصدرت قراراً نصّ على ألا يُسمح لفنان غير مصري بالعمل في أكثر من فيلمين في السنة، وذُيِّل القرار بحاشية تقول: "وهذا ينطبق على الفنانة نور الهدى".
**
•رسالة إحتجاج للرئيس عبد الناصر:
أدركت نور الهدى بعد عودتها إلى لبنان عام 1953 أن أم كلثوم كانت وراء قرار نقابة السينمائيين لإبعادها عن الساحتين السينمائية والغنائية، فكتبت رسالة وجهتها إلى الرئيس عبد الناصر نشرتها مجلة «الشبكة» في نيسان/أبريل عام 1956، جاء فيها: «…إن الإجراءات التي فرضتها الرقابة المصرية الصارمة علينا نحن أهل الفن في سورية ولبنان؛ باتت تتنافى وروح الثورة التي كان من أساس قيامها تقوية العلاقات الأخوية الطبيعية بين مصر وكل قطر عربي آخر.…».
**
بعد عودتها إلى بيروت، جاهدت نور الهدى في استعادة دورها في وطنها، وأحيت حفلات، وتعاونت مع زكي ناصيف وتوفيق الباشا وحليم الرومي وغيرهم، كما سجلت مستهل الستينيات للإذاعة اللبنانية ثلاثة مسلسلات غنائية، وصورت لتلفزيون لبنان ثلاثة مسلسلات تلفزيونية أميزها «ليالي الأندلس» و«نوارة».
غير أنها لم تحصد النجاح المرجو، حيث تضاءل بريق نجمة الأمس تدريجياً، فآزداد سخطها من الوسط الفني، وعاشت بشبه عزلة...
**
إعلامي وباحث في التراث الشعبي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.