زياد سامي عيتاني*
مرت ذكرى وفاة المطربة الراحلة سعاد محمد بصمت (4 تموز "يوليو" 2011)، تماماً كما كان رحيلها، بعد أن كانت إعتزلت الغناء لتعيش في عزلة مطبقة في القاهرة!!!
سعاد محمد سيئة الحظ الفني، كانت تمتلك حنجرة ذهبية وقدرات صوتية هائلة لا حدود لها، حيث أُطلق عليها "صاحبة الصوت الذي لا يملك حدودًا أو لجامًا، منطلقاً في كافة الأرجاء، عذب يطرب الآذان، ويأسر مَن استمع إليها".
و صنفها الكثيرون بأنها أحد أجمل الأصوات النسائية، حتى وصفها الشاعر عبدالفتاح مصطفى ب"قيثارة السماء" ، كما سماها الأديب أحمد عسة "شادية العرب".
**
•الولادة واليتم المبكر:
ولدت سعاد محمد في "تلة الخياط" في بيروت في الرابع عشر من شباط (فبراير) عام 1931 لعائلة لبنانية محافظة، من أم لبنانية وأب يدعى الشيخ محمد أحمد فاضل وكان يعمل فى صناعة الكراسى الخيزران ويجيد الإنشاد الدينى ، ولقب باسم الشيخ محمد المصرى حيث تنتهى جذوره إلى عائلة السوالمة بسوهاج وكان جده أزهريا استوطن لبنان وتزوج فيها بعدما سافر إليها من مصر مع الحملات التنويرية التى أرسلها محمد علي.
**
•التأثر بالموسيقي سعيد سلام:
عشقت الطفلة سعاد محمد الغناء منذ كان عمرها 7 سنوات، وكانت تستمع إلى نغمات العود من جارها وقريبها الموسيقى سعيد سلام والد المطربة نجاح سلام ، فإنبهر بصوتها ودربها على الغناء والعزف على العود واصطحبها قبل أن يتجاوز عمرها التاسعة إلى منزل الفنانة صباح حيث سمعها الشيخ ذكريا أحمد وأشاد بصوتها.
وذاع صيت الطفلة سعاد محمد فى لبنان و أصبح الأهل والجيران يدعونها للغناء فى أفراحهم، كما كانت تغنى فى مدرستها المقاصد، واستعانت بها بعض الجمعيات الخيرية فى حفلاتها، وكانت الصغيرة تحصل على صندوق من اللعب مقابل الغناء.
ولم تخش مواجهة الجمهور في أولى حفلاتها في لبنان رغم صغر سنها، ولكن إحساس الفرح سيطر عليها لوجود الجمهور، الذي قابلها بالسخرية بسبب عمرها حتى اختلفت وجهة نظرهم بمجرد سماع صوتهم.
**
•البداية بين بيروت ودمشق وحلب:
بدايتها الفنية كانت في بيروت حيث غنت الموشّحات، بعدما إكتشفها الموسيقي الراحل توفيق الباشا، إذ سمعها تغنّي "ليه تلاوعني" لأم كلثوم، حيث كان لع بصمة مهمّة في مسيرتها الفنيّة داخل لبنان، قبل أن تنتقل إلى سوريا ثم إلى مصر.
بعدها إنتقلت إلى دمشق، وبدأت بغناء الموشحات في إذاعة دمشق.
ثم سافرت إلى حلب، ووصفت بأنها صاحبة أجمل صوت نسائي سمعوه، ومنذ هذه اللحظة إشتهرت وعرفت بصوتها الجميل حتى إكتشفها الملحن محمد محسن.
ومهد تميزها وتبنيها من قبل الملحن محمد محسن في صقل موهبتها، مما منحها فرصة رائعة للتوجه للقاهرة عاصمة الانتاج الفني في العالم العربي.
**
•أول فيلم سينمائي:
لدى وصولها إلى القاهرة، شاركت بفيلم "فتاة من فلسطين"، والذي كان أول فيلم عن القضية الفلسطينية، إذ إستعانت بها المنتجة عزيزة أمير للقيام ببطولة الفيلم، غنت فيه مجموعة من أجمل الأغاني.
وكان شاركها البطولة في هذا الفيلم محمود ذو الفقار وحسن فايق وقام بتاليف اغاني الفيلم الشاعر الشعبي بيرم التونسي وعبدالعزيز سلام، وقام بتلحينها رياض السنباطي ومحمد القصبجي.
وفي السينما لم تقدم سوى فيلمين: أولهما "فتاة من فلسطين"، إلى أن لعبت بطولة فيلمها الثاني "أنا وحدي" إخراج هنري بركات وشاركها البطولة ماجدة ونور الدمرداش وصلاح نظمي.
وقدمت في هذا الفيلم اربعة اغاني انتشر بعضها بشكل واسع في العالم العربي خصوصا اغنية "فتح الهوا الشباك" و"هاتوا الورق والقلم" وشارك في تاليف الفيلم هنري بركات وابو السعود الابياري وانتجته اسيا داغر.
وبعد ذلك، إعتزلت التمثيل وإكتفت بالغناء في الإذاعة بأغاني فردية أو أغاني في برامج إذاعية، وقد قدمت الكثير من هذه البرامج، وإكتفت من السينما بتقديم أغنيات مدبلجة لبطلات أخريات مثل أغانيها في فيلم "الشيماء أخت الرسول" سنة 1972 وفيلم "بمبة كشر".
**
•الشهرة والزواج من الشاعر محمد علي فتوح:
بعدما ذاعت شهرة سعاد محمد، تزوجت من راعى موهبتها الشاعر الكاتب الصحفى محمد على فتوح عام 1951 ، الذى كان له دور كبير فى مسيرتها الفنية و ألف لها 140 أغنية، كما كانت سعاد محمد تردد أغانى أم كلثوم، حتى لقبت بأم كلثوم "المشرق العربى"، وحازت شهرة وجماهيرية واسعة، لدرجة أن الجماهير حملت سيارتها في حلب.
**
•التحول الفني من دمشق:
التحول الكبير في حياة سعاد محمد، كان في دمشق التي صارت تتردد عليها لتغني في مسارحها ونواديها الليلية، حين تعرف عليها الملحن السوري محمد محسن (كما أشرنا)، وأعطاها فى موسم 1947 أول الألحان الخاصة بها "دمعة على خد الزمن" التي حققت نجاحاً كبيراً في حينه، ثم "ليه يا زمان الوفا" و"مظلومة يا ناس"، وكانت جميعها من كلمات الشاعر الغنائي وزوجها محمد على فتوح .
ودفعت تلك الألحان بسعاد محمد إلى الصف الأول، ولم تعد مجرد مطربة مغمورة تغني لأم كلثوم، بل أضحت صوتاً جديداً ومعبراً ومثيراً لاهتمام الملحنين.
**
•زكريا أحمد يتبنها بعدما سخر من صغر سنها:
أما في القاهرة فقد إشتهرت سعاد محمد من خلال ألحان زكريا أحمد الذي سبق أن قابلها لأول مرة في لبنان بمنزل الشحرورة صباح (كما أسلفنا) والتي أخبرتها بالمجيء، وأول ما رآها سخر من شكلها لصغر سنها، وقال لصباح: "هي دي؟"، فأخبرته بدروها أنه سيغيّر رأيه عند سماع صوتها ليتوجه إلى الصغيرة بقوله: "غني يا بت"، وبمجرد بدئها في الغناء لاحقها بالعزف على عوده وبعد إنتهائها قال لها: "هكون زي بابا، تعالي مصر أديكي ألحاني"، وهو ما حدث بالفعل عند مجيئها لمصر.
**
•الغناء لعمالقة الملحنين:
بعد ذلك، غنت سعاد محمد أكثر من 3 آلاف أغنية تحمل الجنسيتين اللبنانية والمصرية، ومن أشهر أغانيها: "هو صحيح الهوا غلاب"، "قد كفانى"، "أوعدك"، "وحشتنى"، "كم ناشد المختار ربه"، وغيرها...
وتعاونت سعاد محمد مع عمالقة الفن والتلحين، ومنهم زكريا أحمد ، محمد القصبجى ، رياض السنباطى وأحمد صدقى، وبليغ حمدى، وعبدالعظيم محمد، والموجى، ومحمد فوزى، ومحمد سلطان، وفريد الأطرش الذى سمح لها بغناء أغنيته "بقى عاوز تنسانى"، وقال لها بعد أن غنتها: إيه الحلاوة دي ياسعاد، أنت غنتيها أحسن مني"، وكان يحرص أن تكون موجودة فى حفلات الربيع التى يشارك فيها.
**
•ظلمت نفسها بالغناء الكلثومي:
لأن صوتها وصف بالكلثومي، شاءت الراحلة أن تغنّي أغنيات أم كلثوم أكثر من أغنياتها، وسجّلت بعضاً منها في مصر، وبعضها في الإذاعة اللبنانيّة بتوزيع الموسيقار الراحل توفيق الباشا.
إلا أن "كلثوميتها"، كانت سيفاً ذا حدين في حياتها الفنيّة، إذ لم تتمكن من الاستفادة من خامتها لتشق طريقها كما تستحق.
رغم ذلك اشتهرت بأغنيتيها «وحشتني» و «أوعدك». أما أغانيها الأخرى، ورغم جمالها، فلم تعطها سعاد محمد حقها مثل «مظلومة يا ناس»، و«دمعة على خد الزمن»، إضافة إلى قصيدة «إرادة الحياة» للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي التي غنتها مرتين، الأولى لحنها حليم الرومي، والثانية لحنها رياض السنباطي. ثم أغنيات أقل شهرة، من بينها «يا بخت المرتاحين»، و«ببعتلو جواب»، و«بقى عايز تنساني» و«نهاية الحكاية».
فسعاد محمد لم يأخذ صوتها حقه، ولم ينل التقدير الذي يستحق، رغم أن الباحثين الموسيقيّون يجمعون في أن صوتها يتمتع بمواصفات نادرة، وأنها تستحق من الشهرة أضعاف ما نالته، وأن صوتها مطواع إلى درجة غريبة في جماله ومساحته، وهو ما يؤهّلها لخلافة عرش أم كلثوم.
**
ظلت سعاد محمد تغني "مظلومة يا ناس"، وكأنها كانت هذه الأغنية بالنسبة لها لسان حالها، وتستحضر وقائع وآلام حياتها على أكثر من صعيد! فقد ظلت تعتبر هذه الأغنية هي العنوان الحقيقي المعبّر عن شكواها من ظلم الزمن لها، ومن عدم إنصاف من حولها، ومن كل محاولات الإستغلال التي تعرضت لها في الفن والحياة..
**
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.