8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

باب التبانة أيقونة الفقراء.. تحت ظلال السيوف

إذا كان تحديد باب التبانة في موقعها الجغرافي سهلا، للقاصي والداني، فهي شمال شرق مدينة الفيحاء. بيد أن موقعها السياسي يكاد يكون أحجية للمحللين، على وقع تمذهب الخطاب السياسي، وتسييس الدين، خصوصاً وأن هذه المنطقة السنية أصبحت رمزاً لتالحرب المذهبية مع جارتها اللدودة العلوية بعل محسن والحيرة بشأن باب التبانة اليوم، هي بسبب شائعات كثيرة عن تدفق السلاح إليها، وعن الجهة التي تسلح، وما مغزى أن تنهار الخيوط العنكبوتية للهدنة، في خضم الصراع المتدحرج يوماً بعد يوم لإسقاط المحكمة الدولية.
ولأن الحرب المذهبية استعر أوارها، مع الخطابات والانتصارات والفتوحات الإلهية، صار يكفي سماع التصريحات السياسية التي تشبه رماداً يخفي جمر نزعات مذهبية صرفة، يجري تظهيرها وإذكاء لهيبها في مناطق ذات اختلاط مذهبي، ومنها باب التبانة.
قد تفسر باب التبانة تلك الجدلية القائمة على مذهبة الصراع، خصوصاً انها والمنطقة المتاخمة لحدودها بعل محسن، قد أصبحتا من أصحاب السوابق في هذا المضمار، فما بين المنطقتين من الجروح غير المندملة، ما يكفي لإعادة النزف مع تجدد الخطابات التي تطل من فوق الأسوار المذهبية، خصوصاً وأن هناك في الساحة السياسية من يحاول الاستئثار بالسلطة مذهبياً متكلاً بشكل أو بآخر على أطنان السلاح التي يملكها. وبقدر ما تكون هناك ساحة مشتركة بين المنطقتين لتصفية حروب الآخرين، تضمحل ساحة المصالحة والاعتراف بالآخر كشريك في الوطن، والاقرار بالتعددية التي تمنح الوطن قوة ثقافية متنوعة، وبخلاف المثل القائل إن المصيبة تجمع، فإن تعامل هاتين المنطقتين مع المصائب المشتركة بدءاً من الفقر وانتهاء بالفقر، لم يلغ التخندق كلما دقت ساعة تسجيل الانتصارات الوهمية، لأنه قد ثبت بـالوجه الشرعي أن انتصاراً واحداً لم تسجله منطقة على أخرى، باستثناء الزيادة الملحوظة في إحصاء الشهداء وزيادة عدد المعوقين والتشوه المتفلت من كل عمليات التنمية والاعمار، حيث تبقى أنصاف الجدران مساحة لإلصاق صورة لهذا الشهيد وذاك.
يمكن الاعتراف بأن باب التبانة هي اليوم أيقونة الفقراء، حيث يتسربل ناسها بالأحلام الجميلة، فيما تكون أرجلهم سائرة على الحفر، وأعينهم شاخصة في مبانٍ تكاد ملامحها تنطق بالذعر المتجدد، لهول ما تسمعه من الوعيد والتهديد، فيما أولادهم يزدادون تسرباً من المدارس، وشبابهم يدخلون في تقارير البطالة بأعلى معدلاتها في لبنان، إذ تصل الى 30%، ليبقى 50% من 100% يعملون اجراء مياومين، أي عمل موسمي وبطالة دائمة. أما الأسر فهي لا ترى الله إلا من خلال الرغيف الذي تسد جزءاً من عضات الجوع، وحدّث عن صنابير المياه العطشى والكهرباء المطفأة، والمباني المتهالكة.
من بوابة الذهب التي كانت تفيض بسلال الغذاء على أهل الشمال قاطبة، ومنه الى النواحي والمدن اللبنانية، بل كانت معراجاً للمسافرين الى سوريا ومنها الى البلاد العربية، للتبضع بأسعار يخرج منها الفقراء بسعادة الأغنياء...تبدّلت الأيام فتحولت البوابة مفتوحة على تأديب الأهالي، كما حدث لهم في كانون الأول (ديسمبر) من العام 1986، التي نفذها نظام الوصاية بحق مئات الضحايا في ثلاثة ليال وأربعة أيام، بعد اغتيال قائدها الشعبي أبو عربي، فيما واصل شلال الدماء تدفقه بعد هذا التاريخ بالاعتقال والقتل، لتتحول بوابة الذهب قاعاً صفصفاً، تذروه رياح الفقر والحروب الناتئة، فمن لم يمت بالسيف ليمت بغيره.
على الخد الشرقي لنهر أبو علي، تطوع الزمان بإعادة عقارب التنمية الى الخلف كنتيجة حتمية لتطويع المكان (باب التبانة)، وحوّله مرتعاً للفقر فضربت به التقارير مثلاً على الكيمياء السياسية التي تغير هوية الأرزاق وتقلب الذهب الى تنك، وكان من قدرتها أن حوّلت باب التبانة الى ما هي عليه اليوم من بؤس وشقاء وأمست أرضها زلزالية حساسة، لا تستقيم تنمية عليها بفعل رخاوة السلم وهشاشة الاستقرار. وهذا ما يدفع بمشاريع مسكّنة لا علاجية، مما يجعل أمر إنمائها غير موضوع في الخدمة بعد، لأن خلاص باب التبانة وجارتها اللدودة بعل محسن، هو الحوار ثم الحوار ثم القضاء على مسببات الحروب اي الفقر والجهل، لطي صفحة الماضي والبناء على أسس صلبة لا تزعزعها منغصات الخطاب التهييجي، الفئوي، الاستقوائي، الاستعلائي، الاستكباري وقبل كل شيء المذهبي.
كلما تردد صدى الإينرغا في ليل تلك المنطقة، أيقن المراقبون أن طرفاً ثالثاً يدخل على خط تثوير الجبهة، على رش الملح في الجرح المفتوح، على محاولة استجداء الحرب...إنها فعلاً مأساة أن ترى الدولة ذلك ولا تصدر بلاغات تحذير ولا تحوّل هذه المنطقة الى منطقة منزوعة السلاح، تمنع فيها قطعان الذئاب من تصيد فرائسها براحة وبيسر.
بعض مرتزقة الكلام يتحدث عن باب التبانة، كمخزن للسلاح تحضيراً لجولة جديدة من الحرب المذهبية، وعن تحولها قندهار، غامزاً من قناة القوى الإسلامية الموجودة في المدينة منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام، التي طردت الغزاة وأعوانهم منذ عصور، متجاهلاً الموارد البشرية التي صبغت طرابلس ومن ضمنها باب التبانة بـمدينة العلم والعلماء، متجاهلاً أسباب انكفاء الاعمار والتنمية عن هذه المنطقة وتحويلها الى أيقونة للفقراء، لتسهيل العبث بأمنها وجعلها مسرحاً دائماً لتفجير الاحتقان السياسي.
تجاهل هذا البعض، ان منطقة باب التبانة تذكر في التقارير كواحدة من أفقر المناطق في لبنان. فبحسب تصنيف برنامج الأمم المتحدة الانمائي، تعتبر باب التبانة منطقة محرومة، وبأنها منطقة تحت عتبة الفقر، حيث يعيش فيها نحو 55 الف نسمة ضمن كثافة سكانية تصل الى 406 في الهكتار الواحد، في أحياء شديدة الاكتظاظ ضمن (8800) وحدة سكنية، أي بمعدل سبعة أشخاص في المسكن الواحد، إضافة الى الأوضاع الاجتماعية والصحية المتردية.
وتعتبر منطقة التبانة بصورة عامة منطقة تجارية (فواكه، خضر، خرضوات، ميكانيك سيارات، مفروشات وغيرها...) ويمكن تقسيم وضع الأُسر في هذه المنطقة الى أسر فقيرة، وأسر فقيرة جداً واخرى مُعدِمة.
وتشكو المنطقة ارتفاع عدد أفراد الأسرة وارتفاع نسبة البطالة، وانتشار حالات الزواج المبكر لدى الفتيات بين سن الـ14 وسن الـ17، وكذلك إحجام الفتيات عن العمل، وكذلك قلّة عدد المدارس وندرة وجود حدائق وملاعب في هذه المناطق. كل ذلك أدى الى وضع اجتماعي مترد جداً في هذه المنطقة التي يمكن اعتبارها بالفعل منطقة منكوبة.
وتشير الدراسة الى أن تردي الوضع الاقتصادي والوضع الاجتماعي، إضافة الى اكتظاظ السكان الذين يعيشون في هذه المنطقة الصغيرة غير المتوافر فيها أي شرط من الشروط الواجب توافرها في منطقة ما.
وبحسب دليل أحوال المعيشة، هناك 10 أقضية تزيد نسبة السكان الفقراء جداً فيها عن المعدل الوطني (6,8%)، ومنها طرابلس التي تضم أحياء فقيرة منها: باب التبانة، القبة، الأسواق القديمة، الأحياء الفقيرة في الميناء.
لماذا باب التبانة تبدو كلازمة تقليدية للحروب الصغيرة وطاولة لشد الكباش السياسي؟، ألا تكفي المواكب الجنائزية؟، ألا تكفي إفاضة نهر أبوعلي من دموع أراملها وثكلاها وأيتامها؟، ألا يكفي وقف زمن التنمية فيها؟، ألا يكفي تحويلها الى أيقونة للفقراء بعد أن كانت بوابة الذهب وسوقاً عامرة؟، هل المراد إبقاؤها أيقونة يحج إليها الوافدون من البؤس والتمرد من ثقافة الحياة، التي تصلح خارج أسوارها، فكأنما للحياة حارات وللموت حارات أخرى، فهل النهارات تشرق لأناس، ولآخرين حياة العسعس، ولأكتافهم البنادق؟.
لقد أخطأ بعض الإعلام الذي يسمسر للحروب العبثية في باب التبانة وكأنه لا يمكن تفاديها، وأخطأ مرةً أخرى حين عتّم على ظلامتها وفقرها وبراثنه الناشبة في أجساد أبنائها، وأفلس حينما اعتبر أنها مصنع دائم لتوترات لا تنطفئ واحدتها حتى تشتعل أخرى....ربما يقود جهل هذا البعض الإعلامي الى تناسي الكتابة عن مشاريع قدمتها حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري لهذه المنطقة، لإقالتها من عثراتها وبلسمة جراحها، وتناسى كيف منعت هذه المشاريع بمنطق الكيد السياسي، وكيف سمح للقليل منها أن يدخل على طريقة إدخال الجمل بسمِّ الخياط (خرم الإبرة)، حتى لا تلفظ أنفاسها الأخيرة، لإبقائها في حالة موت سريري، فكان التعطيل القسري شاهداً على إبقاء العسر في التنمية، ولم تهدأ محاولات الحكومات التي أعقبت مسيرة الاستقلال الثاني، لإعادة أوكسجين الحياة إلى باب التبانة، لكن رياح الاستقرار تجري بما لا تشتهيه سفن التنمية.
المواطن يعرف أن الدولة هي الجواب الأول والأخير، لأسئلة كثيرة تسألها منطقة باب التبانة قبل خراب بصرتها، لتقول وداعاً للسلاح. أمّا غياب الإجابة فتعني أن المطلوب بقاء أيقونة الفقراء تحت ظلال السيوف!.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00