تبدو المفارقة واضحة بين الواقع والمأمول، في ما يخص أزمات السير في البلد ولا سيما في العاصمة والحوادث المرورية التي لا تتوقف عند المناطق. هذه المفارقة معترفٌ بها من الوزراء والمسؤولين المعنيين بهذا الجانب، خصوصاً في الحيّز الاقتصادي منها، المتمثل بالهدر المالي الحاصل، إن على مستوى الانفاق الزائد في مصاريف السيارات المتوقفة، أو في عملية إهدار الوقت الذي لا يمكن تخمينه، أو في مستويات التلوث ذات التكلفة العالية على الصحة العامة.
صحيح أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، التي تظهرها بوضوح صورة التشنجات السياسية، المتمثلة في عدم إقرار موازنة العام 2010 ولاحقاً في تعطيل مناقشة موازنة العام 2011، بيد أن المواطن الذي كفر بالسياسة، يريد من الطبقة السياسية أن تلتفت أكثر الى همومه المعيشية والاقتصادية، وحلّ المشكلات التي باتت موضوعة في خانة المزمنة، التي تتطلب توافقاً سياسياً لتسهيل علاجها وتسيير أمور المواطنين والدولة، وهذا غرض السياسة وهدفها، وبالتأكيد فإن سياسة التعطيل ستجعل من المشكلات المزمنة مستعصية، بحكم تعقد الأمور كما هو الحال في ملف الكهرباء.
وإذا كانت توقعات النمو الاقتصادي للبنان لـ2010 هي 6% على الأقل، فإن تحفيز هذه النسبة ينطلق أولاً من الاستقرار لتعزيز حالة النهوض الاقتصادي في البلاد، وهذا من البديهيات الاقتصادية، أما الآخر فهو ما أعلنته وزيرة المال ريّا في معرض شرحها لموازنة العام 2011، من خلال استكمال عملية تطوير البنى التحتية للاقتصاد باعتبارها الرافعة للنمو الاقتصادي.
زيادة الانفاق
وعليه، فإن إعتمادات نفقات الإستثمار شهدت في مشروع موازنة 2011 زيادة قدرها 104 مليارات ليرة ونسبتها 3.24%، وقد أوضحت الوزيرة الحسن أن الحاجة للإنفاق على البنى التحتية وخاصة على الكهرباء إضافة إلى إنشاء مشاريع المياه وقطاع النقل والطرق وأهمية النهوض بقطاع الإتصالات تفوق ما هو مرصود له في مشروع الموازنة ويفوق قدرة الخزينة على تحمل أعبائه، لذلك لا بد من اللجوء إلى الدول والصناديق المناحة إضافة إلى الشراكة مع القطاع الخاص لتمويل و/أو الإستثمار بهذه المشاريع.
وقد رصد مشروع موازنة العام 2011، زيادة اعتماد الدفع لقانون برنامج أشغال الطرق من 100 مليار ليرة في مشروع موازنة العام 2010 إلى 110 مليارات ليرة لحظ مشروع موازنة العام 2011، أي بزيادة قدرها 10 مليارات ليرة، مع الإشارة إلى أن اعتماد الدفع المقرر في موازنة العام 2010 بلغ 36 مليار ليرة للعام 2011 مما استوجب تعديل قانون البرنامج.كما لحظ زيادة في اعتمادات صيانة الطرق في وزراة الأشغال العامة والنقل من مبلغ 175 مليار ليرة ملحوظ في مشروع موازنة العام 2010 إلى 180 مليار ليرة لحظ في مشروع موازنة العام 2011 أي بزيادة قدرها 5 مليارات ليرة.
وإذا كانت الوزيرة الحسن قد أنبأت بأن الانفاق على البنى التحتية يحتاج الى صناديق مانحة وشراكة مع القطاع الخاص، فوزير الداخلية والبلديات زياد بارود لم يذهب بعيداً، حين طالب بالاستثمار في هذا القطاع كما سائر القطاعات الأخرى.
حل أزمات السير
يعتبر الخبير الاقتصادي ايلي يشوعي، أن ما خصص لوزارة الأشغال العامة والنقل من اعتمادات في الموازنة يعتبر جيداً، خصوصاً وأننا نتحدث عن عمليات طرقية ليست بالكبيرة. ويقدِّر أن الخسائر الناتجة عن الحفر الموجودة في الطرقات وعدم طمرها أو ردمها، تتسبب بخسائر ناتجة عن الأعطال الميكانيكية للسيارات وإهداراً للوقت والطاقة حجمها لا يقل عن 100 مليون دولار سنوياً.
وقال يشوعي نحن اليوم لا نتحدث عن خطط لتعزيز شبكة المواصلات، وإنما نتحدث عن ترقيع للحفر التي تتواجد على الطرق. وضرب مثلاً على طريق بعبدات-بكفيا، التي مضى على تنكيشها أكثر من شهرين دون أن تزفت، لافتاً الى أن تبرير عدم التزفيت بحجة عدم وجود الأموال، غير منطقي، لأن المنطقي يقتضي إيجاد الأموال قبل البدء بأي مشروع.
لكن المسألة لا تتوقف عند هذا الحد، فمثلاً حوادث السير تتسبب بخسائر كبيرة على مستوى الاقتصاد الوطني، فإذا كانت تكلفة حوادث السير، فبناءً على تقديرات معتدلة حول الأعداد الفعلية للحوادث وضحاياها، ووفق المعلومات المتوفرة حول تكلفة كل منها، فإن التكلفة الاجمالية المحسومة لحوادث المرور التي شهدها العام 2003، تزيد على 500 مليون دولار، واذا ما طبقت المؤشرات الرئيسية العالمية على أعداد الحوادث وضحاياها في لبنان، ترتفع قيمة التكلفة الاجمالية لتتعدى مبلغ 750 مليون دولار، وما من شك أن التقديرات التي وضعتها شركة سويسرية بالتعاون مع وزارة الأشغال، هي اليوم أكبر حجماً قياساً بالتطورات المالية والتقنية العالية للسيارات الحديثة اليوم.
أما بشأن الاختناق المروري والزحمة، فيقول أحد الخبراء، إذا اعتبرنا ان كل سيارة فيها شخص واحد، تعبر على كل مدخل من المداخل الثلاثة للعاصمة تهدر15 دقيقة اي ربع ساعة في عرقلة السير، وتأخير الوصول الى مقصدها، فيمكن تقدير الارقام الناتجة عن هدر الوقت وحرق الطاقة بلا فائدة مع تلوث في آن: (بدون احتساب تكلفة الفاتورة الصحية) بنحو 12500 يوم عمل تعادل نحو 42 سنة، وهكذا تستهلك مداخل العاصمة الثلاثة كل يوم ضحية تعادل 42 سنة عمل، وهذا ما لا يمكن احتسابه ماليا. وضحية أخرى بمعدل تلف 12 سيارة يومياً، أي اكثر من 50 مليون دولار سنوياً، فضلاً عن ذلك فإن كل تأخير مدة 15 دقيقة يعادل حرق ربع ليتر بترول لكل سيارة، فتكون النتيجة استهلاك 100000 ليتر بنزين، أي خسارة 160 مليون ليرة أي نحو 40 مليون دولار سنوياً.
وترى دراسة وضعها مجلس الانماء والاعمار، ان اعادة احياء بيروت كعاصمة عالمية كبيرة تتوجب خطة للنقل تتلاءم مع هذا الهدف في سنة 2015، فمنطقة بيروت سيسكنها مليونا نسمة، تتمتع بمستوى دخل وقدرة تملك للسيارات اكبر بكثير من اليوم. والطلب على النقل سيصل الى نحو 5 ملايين رحلة في اليوم في منطقة بيروت الكبرى بحلول 2015، وهو اكبر بـ3 مرات من الوضع الحالي.
ومن هنا، فقد أعاد فتح المدارس أبوابها هذا العام باكراً، انتشاراً واسعاً لأزمة السير وفي كل المناطق على حدٍ سواء، ولم يعد الأمر مقتصراً على العاصمة أو جونية، اللتان لا تعرفان الراحة على مدار السنة، بل تتحولان في معظم أيامها الى مواقف كبيرة. ويقدّر أحد الخبراء الاقتصاديين أنه في ما خصّ تكلفة الاستهلاك للوقود في ساعات الزحمة، فإنها تزيد نسبة استهلاكه نحو 30%، لتزيد معها نسبة التلوث التي لها أيضاً تكاليفها الاقتصادية، ولا يمكن فقط احتساب القيمة في هدر الطاقة بل يتعداه الى مسألة بالغة الأهمية تتعلق بإهدار الوقت الذي لا يقدر بثمن.
وقد كان لافتاً خلال وضع مشروع مزاولة مهنة النقل العام كجزء من سياسة القطاع، قبل أسبوعين من اليوم، اعتراف وزيري الأشغال العامة والداخلية، غازي العريضي وزياد بارود، بعمق الأزمة إن من الناحية المادية أو بالخسائر البشرية الناتجة عن الحوادث، والتي لا يمكن ردمها إلا من خلال تحسين المؤسسات المهترئة، وبتوسعة الطرق التي وضعت منذ ستينات القرن الماضي، دونما الأخذ بتطويرها مع تزايد عدد السكن واستخدام المركبات والآليات (من 200 ألف سيارة في الستينات الى 1,5 مليون سيارة)، معطوفاً عليها تأمين 50 راداراً بتكلفة تقارب 2,5 مليوني دولار، لمراقبة السيارات المسرعة، ومعالجتها بتشديد الغرامات.
ولم يفت بارود أن يذكر بأنّ حل هذه الأزمات تكلفتها الاقتصادية عالية من ناحية الاستثمارات ومثلما نستثمر في الأمن نستثمر الطرقات والبنى التحتية والنقل المشترك.
على أن الجانب المهم، هو في إقرار مشروع خطة النقل العام، المرفوع الى مجلس الوزراء، لتخصيص جلسة خاصة بالنقل ومن ثم إقرار الخطة، التي تحظى بموافقة جميع الكتل السياسية باعتبارها نموذجية كما يصفها الوزير العريضي.
والسؤال هو الى متى ستبقى سياسة التصعيد، هوايةً يحلو للبعض ممارستها على حساب العامل الاقتصادي، وكأن البلد بألف خير، فيما الحكومة لا تستطيع الى الآن أن تترجم بيانها الوزاري الطموح في الاقتصاد والتنمية، بسبب المطبات السياسية ولغة التهديد والوعيد، التي حتماً ستؤدي الى كارثة اقتصادية، لا يحسب لها المتساجلون حساباً، خصوصاً وأن طرقات البلد تقفل بزحمة عشرات آلاف السيارات ومئات الضحايا، ولا يفتح منها إلا مسلك وحيد على الأزمات؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.