يبدو أن هناك مقاربة لإحداث قفزة نوعية في إدارة ملف الكهرباء في ظل توافق سياسي داخل الحكومة، فالمثل الهندي يقول ثمة نجوم كثيرة لم تلمع بعد، خصوصاً وأن مسافة شهرين تفصل لبنان عن موسم السياحة الموعود بأكثر من مليونين، بالنظر الى الإحصاءات التي تصدرها وزارة السياحة اللبنانية، والتي تظهر زيادة في عدد السياح بنسبة 34% بالمقارنة مع الشهرين الأولين من العام الماضي، وحتى الآن لم ينسَ اللبنانيون التقنين الحاد الذي عاشوه الصيف المنصرم، فيما السياح يتصلون ويستفسرون عن أوضاع الكهرباء قبل المجيء الى هذا البلد، الذي تشكل السياحة مورداً مهماً من موارد خزينته.
وقد بات معروفاً أن قطاع الكهرباء في لبنان، يعاني حالة مرضية مزمنة، علاجها سيكون مكلفاً وموجعاً في آن، بسبب ترهل القطاع والتعقيدات الإدارية التي تشل قدراته، إضافة الى النقص الحاد في جهازه البشري مع وقف التوظيف، وندرة التدريب لبناء قدرات مواكبة للتطورات التكنولوجية التي باتت سمة لقطاعات الكهرباء في الدول المتقدمة. وقد فاجأ طرح الوزير التركي المتقدم في مجال الكهرباء، وزراء دول الربط الثماني في اجتماعهم الأخير في بيروت، لجهة الفائض المقدر بـ5000 ميغاوات والمشاريع المستقبلية، بيد أن المفاجأة كانت العقبات الفنية والتشريعية، التي تحول دون الاستفادة من هذا الفائض وخصوصاً لبنان، الذي يعاني نقصاً شديداً في انتاج الكهرباء، فبدا لبنان أمام هذا الطرح متمثلاً بما قاله موسوليني عن الألمان شهيتهم قوية ولكن أسنانهم نخرة.
لكن وعلى الرغم من كل ذلك، فإن مساعي الحكومة اللبنانية لمقاربة الملف، بدأت منذ تشكلها وكان بيانها الوزاري واضحاً لجهة تأمين 700 ميغاوات، لحل جزء من الأزمة ريثما يستقر الأمر على التوافق السياسي بشأنه، خصوصاً وأن هذا الملف تحول سابقاً من ملف حيوي الى ملف سجالي، أدت تراكماته الى الحال التي وصل اليها الآن من تقنين، والى عجز مستدام كلما صعد سعر برميل النفط.
وعليه، فإن من الحلول على الصعيد الآني لرأب الصدع ولو جزئياً، استجرار الطاقة من دول الجوار وهو ما تحاول وزارة الطاقة تسهيله من خلال عقود استجرار ثنائية، واستكمال شبكة الـ220 ك.ف. التي لا يمكن من دونها الإفادة من الفائض المتوفر على خطوط الربط الثماني. وهو الأمر الذي يتطلب من الجانب اللبناني زيادة محول إضافي في محطة كسارة، لمضاعفة القدرة الاستيعايبة للتحول من 400 الى 220 ك.ف. وهي الحلقة التي يتطلب إقفالها.
بيد أنه من غير المجدي زيادة قدرة التحويل في محطة كسارة، إن لم يكن هناك وعد والتزام صريحين بتزويد الجانب اللبناني بالكميات الضرورية لسد جزء من حاجاته من خلال مشروع الربط الثماني، الذي يهدف في أساسه الى الإفادة من الاحتياط عند مختلف البلدان المترابطة، ما يؤجل الاستثمار بقدرات توليد احتياطية معتمدين على فارق التوقيت في ذروة الأحمال بين الدول.
غير أن التناقص الحاد من جهة وزيادة الطلب على الطاقة من جهة أخرى، حولا وظيفة الربط من مساندة في الحالات الطارئة الى استجرار طويل الأمد ولغايات تجارية غير تقنية، مثلما كان الهدف في الأساس. ومن هنا تكمن أهمية الاستفادة من التجربة التركية التي اعتمدت أسلوب السوق المفتوحة OPEN MARKET حيث يتم الشراء بين مزود الطاقة ومستهلكها بطريقة حرة بدون قيود، بالأسعار الحقيقية للتكلفة، ويتقاضى مشغل الشبكات TSO رسوم نقل الطاقة، وهذا يشبه الى حد بعيد ما لحظه القانون 462-2002، الذي أبقى إدارة شبكات النقل بيد القطاع العام مقابل رسوم تشغيلية تحتسب وفقاً لجداول تكلفة واضحة، حيث تكون الشبكة متاحة للجميع لتبادل الطاقة. وهو ما أعلن عنه الوزير التركي صراحة خلال اجتماع دول الربط، من أن الكهرباء في تركيا تحولت الى بورصة.
بيد أن لبنان وبحسب مصدر مطلع، لديه مشكلة في محطة كسارة (إضافة محول) وشبكة 220 ك.ف. (حلقة المنصورية) ومحدودية خط النقل مع سوريا كونه خطاً واحداً، يضاف الى ذلك محدودية الكابل البحري الذي يربط بين مصر والأردن، ومن هنا طلب الاجتماع الوزاري الأخير لدول الربط، من لبنان، وضع سلم أولويات للاستثمارات لتعزيز الربط بين بنى تحتية تحتاج الى ضخ أموال لا يستهان بها، ومترابطة لجعل الإفادة متاحة للجميع، وهذا يتطلب إعداد دراسة تتطلب أشهراً عدة لتجميعها واعتمادها، فضلاً عن الاستثمارات بشأن الكابل البحري وهذا يحتاج تكلفة باهظة.
أما أهم العوائق التي تعوق الإفادة من فائض القدرات من الجانب التركي، الذي أعلن عن فائض يصل اليوم الى نحو 5000 ميغاوات، فهي القيود الفنية التي تفرضها المنظمة الأوروبية بشبكات النقل ENTSO، التي تتشدد في نوعية السلعة الكهربائية لجهة الفولتية والذبذبات، التي يجب أن تراعي هامشاً ضيقاً وفقاً للمعايير الأوروبية وهنا تكمن المشكلة الحقيقية، إذ أن الجانب التركي استغرق 10 سنوات لتأهيل بنيته التحتية للاستجابة لهذه المعايير، وسوف يمر باختبار خلال الأشهر المقبلة، قبيل انضمامه الى شبكات أوروبا كعضو كامل.
لذلك، يبدو أن الاستفادة من الجانب التركي متعذرة حتى لو تم اللجوء الى الربط على مبدأ مستمر لتفادي المشكلات التقنية، ولكن الجانب التركي الذي نضجت لديه خبرات في اعتماد السوق المفتوحة، أصبحت لديه ريادة في مجال صناعة الكهرباء وبيعها والاستثمار في دول الجوار أي سوريا ولبنان والعراق وغيرها.
وبالفعل فقد تم التوقيع بحسب (MODERN POWER SYSTEMES) بـ100 مليون يورو بين عملاق شركات الطاقة التركية KARDENIZ POWER SHIP COMPANY LTD وشركة MAND DIESEL لبناء 24 مجموعة توليد منها 21 مجموعة تعمل بنظام ثنائي الوقود و3 مجموعات تحرق الوقود الثقيل، بطاقة إجمالية تصل الى 400 ميغاوات. ومن المعلوم أن لا أحد يملك في دول الجوار بوارج لتوليد الطاقة غير تركيا وهناك باكستان البعيدة عن شاطئنا المتوسطي.
وقد يكون للبنان حظ باستئجار هذه البوارج لتزويد الشبكة اللبنانية بصورة سريعة لمواجهة الزيادة الحادة المتوقعة الصيف المقبل، وهو ما ذهب إليه الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد حايك في مقابلة تلفزيونية في 8 الشهر الجاري، الذي شدد على ضرورة استئجار بوارج لانتاج قدر كافٍ من التيار الكهربائي للبنان في الصيف المقبل، لكنه استبعد إمكان الحصول على هذه البوارج في حزيران (يونيو) المقبل، بسبب ضيق الوقت، موضحاً أنه لا يزال في الإمكان تأمينها اعتباراً من آب (أغسطس) المقبل، إذا أجريت المناقصة في أقرب وقت. لافتاً الى أنه الحل الوحيد، وثمة شركات تقدمت لتأمين هذه البوارج، مضيفاً أن إجراء المناقصة يستلزم وضع دفتر شروط ويا للأسف تأخرنا ومن الصعب أن نحصل على بوارج في حزيران، ولكن إذا حصلنا عليها في آب سيكون ذلك أفضل من لا شيء.
ويقول المصدر، إن سياسة المطرقة والسندان، هي التي تعيق حتى الآن ايجاد حلول جذرية لمشكلة الكهرباء في لبنان، ومن أهمها: تكلفة الانتاج الكهربائي، إذ أنه من غير المجدي على الاطلاق استئجار أو استجرار بتكلفة تفوق عدة أضعاف الشطور الدنيا لمبيع الكيلوات ساعة، التي لم تتغير في لبنان منذ أواسط التسعينات، فالانتاج في لبنان ما زال يحتسب سعر برميل النفط على أساس يقل عن 20 دولاراً، وهو ما يتسبب بخسارة فادحة لمؤسسة الكهرباء وخزينة الدولة، ولن يقل العجز في موازنة المؤسسة خلال العام الجاري عن 1،2 مليار دولار، ما يشل أي نية لدى المستثمرين في هذا القطاع، إذ يتخوف من عجز المؤسسة عن دفع فارق التكلفة، ما بين التوريد المستقل والبيع للعموم، فالمواطن يشتري كهرباء مدعومة فكيف سيكون الوضع مع استئجار بوارج للطاقة؟.
لذا فإن العلاج بهذ الطريقة سيكون مكلفاً أو موجعاً، إذ أن السياسيين الذين تعاقبوا على وزارة الطاقة لم يتجرأوا على زيادة التعرفة بالرغم من الخسائر المتوالية في هذا القطاع، على مبدأ سياسة الهروب الى الأمام أي أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً!.
ففي لبنان تراوح تكلفة الانتاج الكيلوات ساعة بين 3 (المعامل المائية) الى أكثر من 20 سنتاً (معامل صور وبعلبك)، فيما الجانب التركي يعرض وفقاً لمصادر مواكبة سعر الكيلو وات ساعة مبيع بـ15 سنتاً، صحيح أن التكلفة تقل عن تكلفة معملي صور وبعلبك، إلا أنها ستكون متقاربة مع التكلفة المنتجة في معمل الذوق والجية التي تعمل بالوقود الثقيل (فيول أويل).
من هنا يتبين أن وزير الطاقة والمياه جبران باسيل، يدرس موضوعه بروية وجدية، وقد كان لافتاً أن طرحه لموضوع زيادة التعرفة خلال حلقة النقاش حول موضوع الكهرباء قبل أسبوعين في مجلس النواب، أنه يأتي ضمن سياق المر والموجع، لأن أي خيار سيتخذه بهذا الصدد ستكون له آثاره المهمة على المالية العامة أو على جيوب المستهلكين، وهو ما يدفعه الى طلب الإجماع الحكومي على خطته، حتى يتحمل الجميع مسؤولياتهم، وهو ما يركز عليه في كل المؤتمرات الصحافية الخاصة بالقطاع، ولاحقاً فإن الإجماع مطلوب في مجلس النواب الشريحة الأوسع لتمثيل البيئات السياسية، خصوصاً وأن البرلمان عليه إقرار القروض لبناء محطات توليد إضافية، أو في إقرار التعديلات المطلوبة على القانون 462 لفتح الباب على مصراعيه أمام المستثمرين المستعدين لبناء معامل توليد مستقلةIPP على مبدأ BOT أوBOOT أو LEASE (استئجار)، وبالتالي فإن المسار الذي يحاول وزير الطاقة أن يرسمه يبدو كمن يحاول المرور بين الألغام، وتتجلى هذه الألغام بالسرعة المطلوبة لتلبية الطلب المتنامي على الطاقة خلال الصيف المقبل، والمتوقعة أن تكون بحجم يراوح بين 1800 و2000 ميغاوات تضاف الى ما تنتجه معامل توليد الطاقة التابعة لمؤسسة كهرباء لبنان وما تستجره من سوريا ومصر.
ومن المعلوم أن لبنان يستجر الكهرباء السورية من خطي عنجر ودير نبوح بموجب اتفاقية موقعة بين البلدين منذ 10 سنوات ويقدر حجم هذه الطاقة بين 100 و150 ميغاوات، فيما بدأ الاستجرار من مصر منذ نيسان (أبريل) 2009 بنفس الكمية تقريباً، وتشكل نسبة الطاقة المستجرة من كلا البلدين نحو 9% من انتاج لبنان العام الذي يراوح بين 1500 و1800 ميغاوات.
وهذه تعيقها القوانين الصارمة لجهة اعتماد لجنة المناقصات المركزية، كما حصل في مشاريع السدود، أو بتخطيها واللجوء الى مجلس الإنماء والإعمار، وهو ما يحاول الوزير تخطيه، أو باللجوء الى المجلس الأعلى للخصخصة لاطلاق الـIPP، ولكن الأمر يتطلب مجلس النواب لإقرار تعديلات على القانون 462.
ومن هنا تبدو العصا السحرية التي ستجترح المعجزات أو التي بإمكانها إنارة الطريق للوزير باسيل بين الألغام السالفة الذكر، هي ليست إلا الإجماع الحكومي والتوافق السياسي، على أي حل من هذه الحلول.
وتقول مصادر مراقبة ومتابعة لخطوات باسيل الإصلاحية، إن تعذر أي حل من هذه الحلول، سيدفع باتجاه جذب شريك استراتيجي في قطاع الكهرباء المنهك، لضخ أموال توازي موجودات المؤسسة (كهرباء لبنان) والتي تقدر بين 2 و3 مليارات دولار، وإعطائه حق الإدارة ضمن مفهوم تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ضمن معادلة تحفظ حقوق العاملين في مؤسسة الكهرباء ومعاملها.
إن أهم هدفين من فتح الباب أمام المستثمرين الاستراتيجيين هو تفعيل الإدارة وتأمين الرساميل المطلوبة لتمويل خطة التوسع في منظومة الكهرباء، التي يطمح الوزير باسيل في ايصالها الى قدرة تصل الى ما بين 4000 و5000 ميغاوات في 2015، أي من ناقص طاقة الى فائض يستطيع التكامل والاندماج في مشروع الربط القائم بن دول الثماني، أما الهدف الآخر فهو عدم القدرة للوصول الى مدارك آلاف الميغاواتات في ظل الأدوات المتاحة، وعلى تلبية تطلعات المواطنين لسلعة ذات نوعية. فهل تكون النجمة التي لم تلمع بعد هي الشريك الاستراتيجي- المخلص وهي الحل، أم أن لبنان سيكون بمقدوره تأمين 5000 ميغاوات في 2015 بمفرده؟..
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.