انتهى العام 2009، لكن أزمة الكهرباء لا تزال المركز الأول في بنك المشكلات الوطنية التي لم يتفق الساسة اللبنانيون على ايجاد صيغة حل نهائية لها، ووقف مزراب الهدر الذي يقلق الخزينة، وفيما بدأت مولدات الكهرباء الخاصة مسكناً يلوذ إليه نحو 1،2 مليون مشترك، فإن الكهرباء الرسمية الممثلة بمؤسسة كهرباء لبنان، يشبه وضعها قول الشاعر كمن ألقاه في اليم وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء، إذ أنه في الوقت الذي يجب أن يُحل هذا الملف الشائك بعيداً عن الانقسامات السياسية الموجودة في البلد، والتي تفاقمت في أعقاب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تحولت الكهرباء الى مادة سجال سياسية من الدرجة الاولى، يدفع من جرائها المواطن من جيبه فاتورتين، رغم تراجع قدراته الشرائية واللائحة الطويلة من الفواتير التي عليه أن يسددها، يعبر عنها بقطع الطرق والحريق، ولم تسلم منطقة من لبنان من هذه الاحتجاجات.
إذاً، الكهرباء في لبنان 2009 لم تعرف سوى الأزمات المتدحرجة، وقد شهد صيف هذا العام تجليات التقنين عندما بات الطلب أكثر من المتوفر، وبلغ عجز الطاقة نحو 1000 ميغاوات، وكثيراً ما دفعت المناطق ثمن السياسات المتعثرة للقطاع، وارتفع الإنفاق على الكهرباء 134 مليار ليرة في تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، بالمقارنة مع الفترة المماثلة من العام الماضي، يضاف اليها استمرار أزمة الهدرين الفني وغير الفني (السرقات والتعديات والتي تمثل نحو 35% من الطاقة المنتجة)، وهو ما يؤشر الى الأزمة التي تعصف بقطاع الكهرباء، وعدم قدرة وزير الطاقة والمياه في الحكومة المنصرفة آلان طابوريان، من وقف هذا النزف، وبدت خططه لشراء مولدات بقدرة 300 ميغاوات لحل جزء من الأزمة، غير مدروسة فرفضت لأسباب تقانية ومالية ولغياب جدواها الاقتصادية.
لكن على الرغم من الأزمات التي تكررت فقد حقق لبنان خلال 2009، جزءاً من أحلام الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الأول تمثل بالربط الكهربائي بين لبنان والدول الثماني، والثاني بوصول الغاز المصري الى دير عمار (تشرين الثاني) والذي من المقدر أن يحقق وفراً مقداره نحو 240 مليون دولار سنوياً بحسب سعر برميل النفط حالياً، وهو ما أعاد الاعتبار الى خطط الرئيس الشهيد الذي وضع خطة كاملة للقطاع منذ 1994، قوبلت بالرفض، ليتيبن لاحقاً الخسارة التي لحقت بلبنان من جراء عدم تنفيذها في ميقاتها المعلوم.
حيث اقتنع الذين عارضوا المشروع لأسباب كيدية أنه مهما طال الزمان أم قصر فإن الحق لا بد أن يجد طريقه. ولا شك أن تأخر لبنان عن اعتماد الغاز الطبيعي، قد أسهم في جزء من المأساة الاقتصادية، ويكفي أن يكون قطاع الكهرباء وحده يشكل ما نسبته 40% من صافي الدين العام بنهاية العام 2008، إلا أن الصحيح هو المثل القائل أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً.
إذاً، بعد 13 سنة فإن جزءاً مهماً من مشروع الغاز المصري يبصر النور، بيد أن لبنان الذي كان نقطة ارتكاز في خط الغاز العربي، ولاعباً أسياسياً، أصبح مستهلكاً ولم تعد تصح تسميته باللاعب، لكنه سيكون مستفيداً على صعيد الوفر من جراء استجرار الغاز المصري عبر الأراضي السورية والأردنية، فضلا عن مزايا خفض الخسائر الفنية والاعطال، وتستحوذ فاتورة المحروقات لزوم معامل انتاج الطاقة على ما نسبته 72،77% من موازنة مؤسسة كهرباء لبنان (بحسب موازنتها للعام 2008)، وسيعمل الغاز على خفض هذه الفاتورة التي تقض مضاجع المسؤولين كلما ارتفع سعر البرميل ويحوم سعره الآن بالقرب من 70 دولاراً. والعقد اللبناني الموقع مع مصر ينص على بدء الضخ بمعدل نصف الكمية المتفق عليها اي 900 ألف متر مكعب لترتفع الى 1800 مليون متر مكعب في المرحلة الثانية، أي نحو 600 مليون متر مكعب سنوياً لمدة 15 سنة قابلة للتجديد.
وفي أيار (مايو) الماضي، احتفل لبنان ببد استثمار النقل الكهربائي ضمن اتفاقية الربط الثماني بعد 9 سنوات من توقيع لبنان الاتفاقية وانضمامه الى مجموعة دول الربط الكهربائي العربي منذ العام 2000 وذلك بعد الانتها من انشا محطة وشبكة 400 ك. ف. من الحدود السورية الى محطة كسارة، إذ أن هذا المشروع سيؤمن طاقة اضافية بحدود 120 ميغاوات خارج اوقات الذروة، ويؤمن وفرا ماليا لمؤسسة كهرباء لبنان، نظرا الى اسعار الكيلوواط المستجر، ويفسح المجال امام لبنان في المستقبل لشرا طاقة من دول اخرى كتركيا والاردن وليبيا وسورية والعراق.
إذاً منذ العام 1992 وحتى نهاية العام 2008، استحوذ قطاع الكهرباء 17% من قيمة العقود التي وقعها مجلس الانماء والاعمار مع الجهات المانحة. لذا فإن العامل الأساسي للنمو والعمالة والمنافسة يتمثل بتأمين تيار كهربائي بشكل جيد ومتواصل، فتطوير قطاع الكهرباء والاستثمار المجدي فيه برهن عالمياً أنه يؤثر ايجاباً في نمو الدخل القومي، لذلك فإن إصلاح هذا القطاع يشكل أهم التحديات التي ينبغي للدولة مواجهتها في المدى القريب، وعليه فإنه خلال مؤتمر باريس3، تعهدت الدولة بالعمل على إجراء الاصلاحات اللازمة، لتحويل القطاع من عبء على خزينتها واقتصادها الى قطاع يسهم في التنمية الاقتصادية. فتوليد الطاقة في لبنان يرتكز بشكل أساسي على الطاقة الحرارية، ولا تتعدى الطاقة المتولدة من المعامل المائية نسبة 10% من مجمل قدرات التوليد في البلاد، وعليه يكون مجموع قدرة الطاقة المركبة 2023 ميغاوات بينما قدرة التوليد الحالية تبلغ 1726 ميغاوات، أما الطلب الحالي فيقدر بنحو 2220 ميغاوات. ويضاف الى ذلك ما استورده لبنان من سوريا خلال الأعوام الثلاثة 2005ـ2007 بمعدل 90 ميغاوات، علماً بأن خطوط النقل الحالية تخوله استيراد 200 ميغاوات، كما يعمل لبنان من خلال مشروع ربط خطوط النقل (400) وانشاء محطة كسارة على زيادة قدرة الاستيراد من دول المنطقة بنحو 250 ميغاوات.
أما الرؤية المستقبلية للكهرباء، فيوجزها تقرير للمجلس الأعلى للخصخصة بانشاء الهيئة الناظمة للقطاع والملحوظة في القانون 462/2002، العمل على تشركة مؤسسة كهرباء لبنان مع القطاع الخاص، ووضع نظام محاسبة حديث ودراسة التعرفة، وابرام عقود استجرار الكهرباء بعد استكمال أشغال الربط الثماني، ومنع التعديات على الشبكات العامة وتشجيع الاستهلاك الرشيد للكهرباء، وانشاء محطات تحويل في المناطق، وتأهيل معملي الذوق والجية ودراسة المخطط التوجيهي للتوزيع في بيروت وضواحيها.
أما أبرز الإشكاليات التي يعرضها التقرير فهي: انقطاع متزايد وتقنين: ويعود هذا الأمر لعدة أسباب:
عدم كفاية الطاقة الانتاجية الحالية لتلبية الحاجات، الأمر الذي أدى الى انتشار المولدات الخاصة.
استثمارات عامة ضئيلة (إن كان على صعيد الأشغال المرتبطة بتأهيل وصيانة المعامل أو بإنشاء معامل جديدة) منذ نحو عشر سنوات. عدم اكتمال شبكات النقل 400 و220. نفقات تشغيل مرتفعة ويعود هذا الأمر الى: تشغيل معملي الدورة المركبة (في الزهراني ودير عمار) ومعملي الدورة المفتوحة (في صور وبعلبك) على زيت الغاز الخفيف عوضاً عن الغاز الطبيعي. تشغيل غير اقتصادي للمعامل بسبب الفعالية المتدنية للمعامل الحرارية في الجية والذوق اللذين يتطلبان أعمال تأهيل، وبسبب استخدام معملي صور وبعلبك كمعملي أساس وليس كمعملي ذروة. نسبة هدر تقني مرتفعة (تفوق الـ15%) ناتجة خاصة عن عدم اكتمال شبكة النقل 220. انخفاض العائد المالي لمؤسسة كهرباء لبنان والناتج عن: ارتفاع عالمي لأسعار المحروقات. عدم إعادة النظر بالتعرفة المعمول بها منذ نحو 15 سنة. تعديات مستمرة ووصلات غير شرعية على الشبكة. نقص في الجباية. مشاكل مؤسسية أساسية في إدارة مؤسسة كهرباء لبنان والناتجة عن: سلطة غير كافية لمجلس الإدارة في اتخاذ القرارات المناسبة. عدم وجود معايير واضحة لتقييم أداء المؤسسة. صعوبة توظيف كفاءات جديدة، ونقص في التدريب الفني. عدم توافر تقارير موثوقة (إحصائية، مالية، معايير أداء، الخ).
وحتى الآن، فإن إصلاح الكهرباء يبدو سياسياً، لجهة الخصخصة من عدمها، وهو ما تجلى في السجالات السياسية التي قامت حول هذا الموضوع خلال 2009، إذ أن القانون 462/2002، لا يزال قائماً لكن مع وقف التنفيذ، وهو ما يدعو الى السؤال عن البديل؟.
وفي هذا الاطار لاحظ وزير المال السابق محمد شطح، أن قطاع الكهرباء خاسر بامتياز، لكن هناك مجال لإنتاج الكهرباء بشكل مناطقي عبر الدولة وتأمين 1000 ميغاوات جديدة وبيعها. أضاف لبنان سيحتاج في وقت قريب إلى 2000 ميغاوات إضافية، والدولة لا تستطيع أن تنتج وحدها هذه الكمية، فأين المانع من مشاريع مشتركة مع القطاع الخاص، خصوصاً أن الدولة لم تبرهن عن قدرة مناسبة في إدارة القطاع.
كاشفاً أن الجزء الأكبر من مؤتمر باريس 3، أي أكثر من النصف، لم ينفذ، إن كان لجهة الإجراءات والإصلاحات، أو لجهة الحصول على الأموال. وقال إن 2000 مليار ليرة تذهب لتغطية عجز قطاع الكهرباء، لأن كل ما تجبيه مؤسسة كهرباء لبنان يغطّي جزءاً بسيطاً ولا يتعدى الإنفاق الإداري، امّا المحروقات المستوردة فيقع عبئها على اللبنانيين والخزينة اللبنانية، وإذا لم تبدأ حركة إصلاح سريع ستبقى التداعيات والأعباء موجودة ومكلفة وتمنع هذا الإنفاق من التحوّل إلى قطاعات أخرى، أو على الأقل تمنع خفض هذه التكاليف التي تؤدّي إلى تفاقم الدين.
والحل كما يشير الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد حايك في تقرير أعده عن المستجدات المتعلقة بالخطة الاصلاحية لقطاع الكهرباء حتى نهاية حزيران الفائت، على ضرورة ان تلجأ الدولة الى القطاع الخاص لتأمين ولو جزء من القدرة الانتاجية الاضافية المطلوبة والتي قد تتطلب الاستثمارات فيها مبالغ تفوق قدرة الدولة وحدها. ودعا في هذا السياق الى اعتماد الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص لتأمين ما يقارب 600 ميغاواط من الطاقة. واقترح حايك في تقريره خطوات يتوجب اتخاذها لتحقيق نتائج مجدية في شأن زيادة قدرة الانتاج، منها على المدى القصير البدء بأسرع وقت ممكن بإعادة تأهيل معمل الزوق. وأوضح أن توجّه الخطة، التي شاركت في وضعها كل الجهات المعنية بملف الكهرباء في الحكومة السابقة، ومنها وزارتا الطاقة والمياه والمال ومؤسسة كهرباء لبنان ومجلس الإنماء والإعمار والمجلس الاعلى للخصخصة وفريق استشاري دولي، لإعادة تأهيل معمل الزوق الحراري في أسرع وقت، وبناء معامل تعمل بالفيول اويل على المدى المتوسط، وعلى المدى الطويل معامل يستخدم فيها الغاز المُسال أو الفحم الحجري. واعتبر حايك أن المبدأين الأهم في عملية إصلاح قطاع الكهرباء هما تنفيذ خطة متكاملة، تشمل اعادة النظر بسياسة القطاع وتشركة مؤسسة الكهرباء وزيادة الانتاج وإصلاح الفوترة والجباية والنقل، وألاّ توقف الحكومات العمل بالمشاريع قيد التنفيذ عندما تتولى الحكم، نظراً الى ان اصلاح قطاع الكهرباء يتطلب وقتاً طويلاً يتجاوز متوسط عمر الحكومات اللبنانية.
وعليه، فإن قطاع الكهرباء بات بحاجة ملحة للانقاذ، فهل توقف الحكومة الحالية نزف الكهرباء وتحوله من قطاع خاسر الى قطاع رابح كما أراد الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.