لا يزال الشمال اللبناني في ذيل القائمة على مستوى الاستثمار مقارنة مع العاصمة ومحافظة جبل لبنان، وتتراوح نسبة الاستثمار ما بين 5 الى 10%، فيما لا تتعدى تسليفات المصارف الى القطاع الخاص في الشمال 3،5 -5% من مجمل التسليفات التي تعطى الى القطاع الخاص في لبنان، فيما لم يستحوذ الاستثمار العقاري على أكثر من 11% من مجمل الاستثمارات التي حصلت العام الماضي. وتدل هذه المؤشرات على عدم وجود حوافز استثمار أو بيئة جاذبة للاستثمارات في الشمال، يعزوها خبراء اقتصاد شماليون الى الوضعين الأمني والسياسي، الذي تأثر به الشمال وعاصمته مدينة طرابلس على مدى السنوات الأربع الماضية، بالإضافة الى غياب المشاريع الحقيقية التي يمكن أن تجعل الشمال يلحق بقاطرة النمو التي تشهدها كل من محافظتي بيروت وجبل لبنان، فضلاً عن أن القطاع الخاص الطرابلسي والشمالي جبان ولا يحب المغامرة، وفي أغلب الأحيان فإن المتمولين الشماليين يسعون للاستثمار خارج منطقتهم ويعود ذلك الى الربحية التي يمكن أن يجنيها هذا القطاع في بيئات لديها مناخ استثمار غير متوفر في الشمال، الذي لا تزال بناه التحتية متخلفة جداً، إن على مستوى الكهرباء أو الاتصالات أو الطرق.
وكانت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة قد أقرت ورقة عمل للتنمية المنطقية، قبل أن تتحول الى حكومة لتصريف اِلأعمال، أكدت فيها أن التنمية المناطقية تشكل مفتاحاً مهماً، لإيجاد حلول تسهم في معالجة أو مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الوطن.
وتشير الورقة على سبيل المثال، الى أن المنطقة الاقتصادية الحرة في طرابلس، ستحتاج إلى تشغيل مطار رينيه معوض، واستكمال توسيع وتعميق المرفأ في طرابلس، وبناء سكة الحديد الممتدة من طرابلس إلى الحدود اللبنانية ـ السورية.
الشمال وعكار: توسعة وتعميق مرفأ طرابلس، تشغيل مطار رينيه معوّض، إيصال الغاز الطبيعي المصري إلى شمال لبنان، خط سكة الحديد من طرابلس إلى الحدود السورية، مشروع الإرث الثقافي في طرابلس، الاوتوستراد الدائري الغربي والشرقي لطرابلس، إنشاء المدينة الجامعية، رفع مستوى البنى التحتية والاتصالات.
إذاً، الشماليون ينتظرون اليوم تشكيل الحكومة العتيدة، لتحويل الشمال وعاصمته من مرحلة الضمور الاقتصادي والشمالي الى مرحلة النمو، وقد استعانت لائحة التضامن الطرابلسي النيابية التي فازت بمرشحيها الثمانية، بشركة بوز ألن لوضع مشاريع اقتصادية وحيوية لها جدوى اقتصادية وتشكل بيئة جاذبة للاستثمار مستقبلاً.
بيد أن خبراء يرون أن أي صيغة للاستثمار مستقبلاً، لا يمكن ان تقفز من فوق الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص، فالأول مطلوب منه توفير البنية التحتية المساعدة على الاستثمار، وتفعيل المرافق الحيوية الموجودة وتحديثها. والثاني مطلوب منه أن يمول المشاريع التي يمكن أن تفتح نافذة للاستثمار وتكوين المناخ الاستثماري لاستقطاب الرساميل العربية والأجنبية، وهو ما سيجعل الشمال بأكمله واحة اقتصادية تمنع هجرة الرساميل والكوادر البشرية واليد العاملة.
ويرى نقيب المهندسين في الشمال جوزف اسحاق، أن الاستثمار في مجال البناء والاعمار قد زاد بنسبة 30% على الرغم من الزيادة الملحوظة في أسعار العقار شمالاً، ويلفت الى أنه في الجانب السياحي ولا سيما من منطقة البترون الى القلمون، الأمر يتطلب جهوداً حثيثة من المسؤولين والقطاع الخاص لزيادة معدلات الاستثمار، ولتفعيل دور طرابلس على الخريطة السياحية في لبنان. إلا أن النقيب اسحاق يؤكد أنه وفقاً لجداول نقابة المهندسين في الشمال، أن هناك مجموعة من مشاريع الاستثمار الكبيرة، فهناك مشروع سيقام في منطقة القلمون على مساحة 244 ألف متر مربع لمغتربين من تنورين وقد سجل المشروع في النقابة، كما أن هناك مشروعاً سياحياً كبيراً في منطقة كفرعبيدا في البترون لمتمولين من الخليج العربي، وكلا المشروعين تكلفتهما بملايين الدولارات (رفض النقيب اعطاء رقم محدد)، بالإضافة الى عدد من المشاريع الصغيرة والمتوسطة في مناطق الاصطياف وفي مناطق التزلج.
وأشار النقيب اسحاق الى أن الأمل معلق على الحكومة العتيدة، مؤكداً أن المطلوب منها هو تفعيل الانماء المتوازن ويجب أن تطلق يدها دون تعطيل لتتمكن من تفعيل الاقتصاد والاستثمار على مستوى لبنان والشمال على وجه التحديد.
وقال إن نسبة الاستثمار في الشمال لا تزيد عن 5% بالمقانة مع حجم الاستثمارات في بيروت، إلا انها تراوح ما بين 30 و40% على المستوى الوطني العام.
وأكد أن الاستقرار السياسي والأمني عامل مهم، لجذب الاستثمارات المختلفة وعدم تسرب رؤوس الأموال الموجودة في الشمال، لافتاً الى أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه البلديات على صعيد إبراز الوجه التراثي والبيئي لحث المستثمرين للاستثمار في الشمال. أما الخبير الاقتصادي مقبل ملك، فيشير الى أن الاستثمارات العقارية تتركز على بيروت التي مساحاتها القابلة للبناء محدودة ومعروفة، فيما الاستثمارات التي تتوجه عقارياً خارج العاصمة، فإنها تتركز على مناطق محافظة جبل لبنان وبعض أطراف البقاع. ولم تحرم المناطق الجنوبية من الاستثمارات العربية أو الاغترابية، بالرغم مما يعتور المنطقة من مشكلات أمنية على الحدود. وذلك عائد الى إقامة الآلاف من جنود اليونيفيل التابعين للمنظمة الدولية في هذه المنطقة، حيث ينفقون جزءاً مهماً من مداخيلهم هناك، وهو ما أدى الى نشوء جملة من المطاعم والمقاهي لتلبية طلباتهم، بالإضافة الى أن المغترب الجنوبي يفضل الاستثمار العقاري في منطقته.
يرى ملك، أن الأمر مختلف على صعيد الاستثمارات في العاصمة الثانية، ويشير الى أنه قد جرت محاولات سابقاً، وبيعت بعض العقارات في المنطقة لمستثمرين عرب ومغتربين شماليين مقيمين في الخارج، إلا أن عدم وجود رؤية اقتصادية وانمائية لم يعد يشجع، اللهم إلا في مناطق الضم والفرز داخل مدينة طرابلس وعلى أطرافها، حيث تضاعفت أسعار العقارات بما نسبته 100%، لدرجة أن تجار البناء باتوا يفضلون المتاجرة بالأراضي بدلاً من بناء الشقق وتقسيطها الطويل الأجل للزبائن، وهذا لا يعني أن تجار الشقق لم يحققوا أرباحاً خيالية، إلا أن انعكاس أزمة المال العالمية قد أرخى بظلاله على هذا النوع من العقارات وجمّد الأسعار خلال الأشهر الأخيرة. ويتناول الخبير ملك، مجالات الاستثمار بإيجاز في طرابلس والشمال خصوصاً على الشكل التالي:
ـ المجال الصناعي: لا شك أن أحداث لبنان 1975-1990، والتي أدت عملياً الى تدمير نحو 30% من المؤسسات الصناعية والى إفلاس عدد آخر من المصانع بسبب ظروف موقعها، وأوضاع الكهرباء وتصريف الانتاج ووصول العمال. في المرحلة التي تلت العام 1990 والى الآن، هناك نشأة محدودة للمؤسسات الصناعية من حيث العدد، قابلتها هجرة مؤسسات انتاج أخرى الى خارج الشمال، واقفال عدد من مصانع الألبسة بسبب عامل المنافسة لهذا النوع من الانتاج.
وهذا دليل على ان هناك عوامل سلبيةعدة تتحكم في نشوء مصانع جديدة واجتذاب الرساميل، منها ارتفاع تكلفة اليد العاملة بالاضافة الى تكلفة تعرفة الكهرباء ووجود سوق لبنانية مفتوحة بعد تطبيق اتفاقية الاسوق العربية الحرة الكبرى.
إذاً، المناخ الملائم للاستثمار في القطاع الصناعي ليس مؤمناً ما دامت التكاليف التي تحدثنا عنها، والتي تشكل أساساً لاحتساب القيمة المضافة، وطالما أن طرابلس ومحافظة الشمال لا وجود فيها لترخيص مناطق صناعية، كما أن البنى التحتية من كهرباء وطرق واتصالات ليست مؤمنة بالشكل الذي يشجع الاستثمارات، أو حتى بما يكفي المؤسسات الصناعية القائمة اليوم في الشمال أو التي يمكن أن تنشأ.
إن المستقبل الصناعي شمالاً يمكن أن يكون واعداً، إذا استكملت التشريعات بالنسبة للمنطقة الاقتصادية الخاصة بطرابلس، وتم تحديد موقعها، علماً أنه من الممكن إنشاؤها في منطقة الردم الجاري في مرفأ طرابلس.
كما أن إنشاء شركات تسويق للانتاج الحرفي داخل لبنان أو خارجه، يمكن أن تشجع المنتجين الحرفيين من التوسع في اعمالهم وانتاجهم والاقبال على الاستفادة من القروض الميسرة التي تؤمنها سواء من المؤسسات المصرفية أو مؤسسة كفالات أو من خلال التمويل الدولي (IFC)، وربما ستؤدي هذه القناعة الى ارتفاع نسبة الطلب لأصحاب مؤسسات الانتاج على تسهيلات مؤسسات الاقراض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتي تعد الأدنى في الشمال، إذ لا تستحوذ على أكثر من 10% من مجمل القروض في لبنان.
ـ المجال السياحي: رغم أن مدينة طرابلس هي ثاني أغنى مدينة بعد القاهرة بالآثار المملوكية إلا ان هذه الآثار لا تعني بالضرورة أن طرابلس مدينة سياحية بالفعل. فلا توجد فيها المطاعم والأندية والفنادق والمقاهي التي تشجع قدوم السياح العرب والأجانب اليها.
علماً أن الحد الأقصى لاستقبال الزوار في مدينة طرابلس قد بلغ 50 سائحاً يومياً عند فترة الذروة، وهم الزوار الذين يقضون ساعات عدة في المدينة، يتسوقون ويزورون القلاع والتعرف على الانتاج الحرفي، إلا أن إقامتهم في المدينة لا تستمر أكثر من ساعات، فضلا عن ان المدينة تفتقر الى الاقتناع بوجود هوية سياحية تميزها.
القطاع الزراعي: أثبتت الأيام أن تكلفة الزراعة في الشمال مرتفعة ولاسيما بالنسبة لمواسم الأشجار المثمرة (الحمضيات والزيتون وغيرها)، فمواسمها متقلبة وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها كقطاع منتج، باستثناء بيوت البلاستيك الزراعية المخصصة للخضر، إلا أنها تجد منافسة شرسة من مصر والأردن وسوريا.
وبالتالي لا يمكن أن يزدهر القطاع الزراعي إذا لم تتم توأمته مع القطاع الصناعي لجهة انشاء صناعات غذائية تعتمد على الانتاج الزراعي المحلي، كما أن التسليف الزراعي لا يزال محدوداً وخسائر المزارعين تتزايد سنوياً.
قطاع المعلوماتية: شهدت طرابلس ومعظم مناطق الشمال ازدياداً ملحوظاً في عدد مهندسي الاتصالات والمعلوماتية المتخرجين، لكن الفئة الأكبر منهم نزحت الى الخارج لتأمين عمل ومورد رزق لها، فيما بقيت فئة ضئيلة منهم في البلد تعمل في مجال البرمجة ولا تؤثر بالتالي على مستوى الدخل القومي، وهذه الفئة بمثابة مراكز معتمدة من الخارج، أما تجميع الأجهزة الالكترونية فقد بدأ ولم يتطور وتراجع خلال مدة قصيرة الى وكالات بيع للأجهزة الالكترونية والمعلوماتية، كان هناك مشروع وادي المعلوماتية مخصص للشمال من قبل مستثمرين ماليزيين، إلا أنه ما إن أطل حتى غاب سريعاً.
بدوره، يرى الخبير الاقتصادي محمد سعيد المصري، أنه على الرغم من موسم الصيف الواعد سياحياً والذي أدى تنشيط حركتي التجارة والاستثمار على المستوى اللبناني عموماً، إلا أن الشمال كانت حصته في ذيل القائمة بل ضعيفة، لأن المرافق الحيوية في هذه البقعة لا تزال معطلة وهي غير مربحة للمستثمر، لأن الاستثمار يحتاج الى مرافق نشطة وفاعلة.
وقال المصري نحن في ذيل القائمة لجهة الاستثمار بالمقارنة مع بيروت وجبل لبنان، ومعظم المشاريع الناجحة في الشمال هي برأسمال غير شمالي، طبعاً هناك عوامل سياسية وغيرها لا تشجع على الاستثمار، إلا أن المترسملون في الشمال غير مستعدين للمجازفة، كما أن القطاع الخاص في الشمال جبان ولا يحب المغامرة.
ولفت الى أن الرأسمال حتى يتحول الى الاستثمار بحاجة الى الأمن، بالإضافة الى أنه يجب أن تكون هناك عوامل تحفيز يمكن أن تقدمها غرفة التجارة والصناعة والزراعة في الشمال والتجار والصناعيون، لجذب الرساميل والاستثمارات المطلوبة للشمال، بالإضافة الى عامل البنى التحتية الذي يحتاج اليه المستثمر للدخول في مشروع رابح.
وأكد المصري، أن الشماليين لم يفقدوا الأمل بعد، خصوصاً مع تكليف النائب سعد الحريري مهمة تشكيل الحكومة العتيدة، والذي سيعيد للانماء المتوازن اعتباره.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.