لم يلقَ توقيع الاتفاق اللبناني-المصري، لاستجرار الغاز الطبيعي المصري الى لبنان، الصدى الذي كان يجب أن يتردد عالياً، ذلك أن ثمة من قطفها على باب المستريح، وفقاً للدارج اللبناني، لما يأتِ ذكر الزارع والبنّاء، فقد تجاهل وزير الطاقة والمياه آلان طابوريان، أن الانجاز المحقق والذي ستبدأ تباشيره من معمل دير عمار آب (أغسطس) المقبل، نتيجة تراكمات مفاوضات وعمل مضن أثمر عن هذه النتيجة، التي انتظرها الشعب اللبناني منذ أكثر من 13 سنة من اليوم، حين وضع الرئيس الشهيد رفيق الحريري مشروع انشاء محطات استيراد الغاز السائل، من ضمن خطته الاقتصادية لإصلاح وتأهيل وتطوير قطاع الكهرباء التي وضعت العام 1995، وتم عرقلة تنفيذ معظم مكوناتها، ومنها موضوع استيراد الغازين المصري والسوري. لكن أهل الوصاية امعنوا في وضع العراقيل السياسية أمام إصلاحات رائد التحديث الاقتصادي، فأفشلوا خزينة الدولة واستنزفوها بحجة معارضة النهج الاقتصادي، بيد أن لا مناص من مواجهة الحقيقة، وأنه لا يصح إلا الصحيح.
الوزير طابوريان الذي دأب على مقارعة ومناهضة خطة الرئيس الشهيد على صعيد الكهرباء، ولم يوفر مناسبة أو مؤتمراً صحافياً، إلا وأجاد التهكم على مشاريع الغاز ومن أنها كانت بلا طعمة، وبنى على أنقاض العجز المالي لمؤسسة الكهرباء خطيطة إذا صح تصغير خطة لإصلاح قطاع الكهرباء النازف، تقنيناً وهدراً وفساداً وسرقات، عاد أمس ليعترف بالوفر الذي سيجنيه لبنان من استيراد الغاز المصري، وليتحدث أكثر عن فضائل الغاز البيئية، وليؤكد أهمية انشاء محطات للغاز السائل، وليعترف أكثر من أي وقت مضى أن خطته هي لتسكيج الوضع الراهن للكهرباء.
ويشرح العضو السابق في مجلس إدارة كهرباء لبنان، والاستشاري والباحث في علم الطاقة ومراكز التحكم بشبكة الكهرباء الدكتور محمد عكاوي، وضع مشروع الغاز الطبيعي في لبنان، ومنها موضوع انشاء محطات للغاز السائل في لبنان. ويقول لـالمستقبل، لم يأت مشروع الرئيس الشهيد رفيق الحريري الاقتصادي لقطاع الكهرباء فيما يتعلق بتوليد الطاقة الكهربائية على الغاز الطبيعي بدلا من الفيول أويل أو الغاز أويل (المازوت) من فراغ، بل جاء مبنياً على حيثيات ودراسات جدوى اقتصادية، وبالنظر الى خصائصه الكيمائية والفيزيائية برهنت هذه الدراسات وجود فوائد عديدة من استعمال الغاز الطبيعي بدلا من الوقود الاخرى ومنها:
[ قدرة الاحتراق العالية وبالتالي التوفير في كمية المحروقات لانتاج نفس كمية الطاقة الكهربائية المنتجة من الوقود المستعمل حاليا.
[ خفض الخسائر الفنية والاعطال وبالتالي التوفير في اعمال صيانة وتشغيل المعامل، وامكان تحقيق وفر مالي يناهز 300 مليون دولار سنويا بحلول عام 2015.
[اطالة عمر تجهيزات معامل الانتاج.
[ المحافظة على البيئة وعلى صحة المواطنين بسبب خفض كمية الملوثات المنبعثة الآن من معامل الانتاج التي تسببها حرق مادة الفيول اويل او الغاز اويل، والتي جاوزت عشرة اضعاف الكمية المقبولة وفقا للمقاييس الاوروبية.
ويضيف عكاوي بالنظر الى توفر الغاز الطبيعي مع ضمان وصولها الى لبنان من بعض الدول العربية، وفي سبيل ذلك عقد اتفاق جانبي مع الحكومة السورية لشراء الغاز الطبيعي منها، كذلك اتفاق مع مصر في ما يتعلق بالغاز العربي والدول المشاركة فيه، بالاضافة الى مشروع الرئيس الشهيد الاساسي لانشاء محطات استيراد الغاز السائل (Regasification Terminal and Storage Tanks) الذي لحظ لها الرئيس الشهيد 197.7 مليون دولار، كان من المفترض تنفيذ هذه المحطة في كانون الاول (ديسمبر) عام 1999. ولكن وبعد خروج الرئيس الشهيد رفيق الحريري من الحكم عام 1998 تم تجميد هذا المشروع الحيوي بالاضافة الى تجميد بعض المكونات الاخرى من مشروع الرئيس الشهيد لقطاع الكهرباء.
وقد وضعت وزارة الطاقة والمياه في حزيران 1998 تقريرا تقيميا بغية تحويل كافة معامل انتاج الطاقة الكهربائية الموجودة على الشاطئ (بداوي، حريشة، ذوق، جية، والزهراني) على الغاز الطبيعي بدلا من الفيول اويل او الغاز اويل (المازوت). وقد بين التقرير الخطوات المتعددة لاقتراح انشاء المحطة البحرية للغاز الطبيعي (Regasification Terminal and Storage Tanks) كما هو مخطط له ضمن مشروع الرئيس الشهيد لقطاع الكهرباء.
ويوضح أن دراسة للجدوى الاقتصادية قامت بها شركة اينيل (Enel) الايطالية في كانون الاول (ديسمبر) 1997 قد بينت تحديد الخيارات لمسار انابيب الغازاللازمة برا او بحرا لجر الغاز، بعد تحويله من غاز سائل الى غاز طبيعي من المحطة البحرية للغاز الطبيعي الى معامل الانتاج الواقعة على البحر.
كذلك بين التقرير انه في العام 1997 تم استدعاء شركات اخرى لدراسة الجدوى الاقتصادية لانشاء المحطة البحرية للغاز الطبيعي واستيراد الغاز السائل عبر البحر كذلك انشاء انابيب الغاز. ومن بين هذه الشركات بران اند روت(Brown & Root) الاميركية، بختيل (Bechtel)الاميركية، و شركة دوك انجينيرنغ اند سيرفيسز(Duke Engineering & Services) الاميركية.
اما في ما يتعلق بالغاز المسيل، فقد بينت الدراسات التي اجريت في العام 1998 أن هناك امكانية لاستيراد هذه المادة، من قطر ونيجيريا وعمان وابوظبي ومصر واليمن، ودراسات عن التكلفة والنقل وغير ذلك. وفي أيار (مايو) 1998 أجرت شركة يو أس تريد اند دفلبمنت ايجنسي(US Trade and Development Agency USTDA)، دراسة لاستيراد الغاز السائل بهبة تبلغ 500 الف دولار، بناء على طلب من الحكومة اللبنانية.
ويضيف عكاوي الا انه وبعد خروج الرئيس الشهيد رفيق الحريري من الحكم عام 1998 وضع هذا المشروع على نار باردة، بحيث لم يتم تلزيم انشاء المحطة البحرية للغاز الطبيعي كما كان مقررا له.
وقد توجه لبنان لجذب عروض الغاز الطبيعي LNG نظراً الى عدم توافر الغاز السوري في حينه. الا ان المحاولات توقفت تماما، ومن بينها تجميد العرض القطري لأسباب سياسية! وكانت وزارة الطاقة والمياه قد عقدت اتفاق نيات عام 1996 مع شركات توتال وألف اكيتان (اندمجتا لاحقاً) وشل وبريتيش غاز وكالوغ لتأمين مادة الغاز او اعداد دراسات عن جدوى استخدام الغاز كطاقة بديلة من الفيول اويل في معامل توليد الكهرباء. الا ان المفاوضات التي بدأت جدياً توقفت في مراحل لاحقة، ربما بسبب تأثير ما يسمى بمافيات الفيول، التي ليس لها مصلحة في استعمال لبنان للغاز الطبيعي.
اما في ما يتعلق بالغاز السوري، فيوضح عكاوي كان هناك استعداد سوري لتزويد لبنان ب3 ملايين متر مكعب يومياً حيث صدر القانون رقم 509 تاريخ 24/7/2003، الذي يجيز للحكومة اللبنانية ابرام اتفاقية بيع الغاز من الشركة السورية للنفط الى وزارة الطاقة والمياه. الا انه وبالرغم من أنجاز لبنان ما هو مطلوب منه على صعيد مد أنبوب الغاز، تبين ان هناك طلباً متزايدا على طلب استعمال الغاز الطبيعي في سوريا وبالتالي ان كميات الغاز الطبيعي المستخرجه من الآبار السورية لا تكفي لتغذية معامل الانتاج، حيث لم يتم استجرار الغاز السوري كما كان مقرراً.
ويتابع عكاوي في 25 كانون الثاني (يناير) 2004، وقع الرئيس الشهيد في العاصمة الأردنية، اتفاقات المرحلة الثانية من مشروع اتفاق الغاز الرباعي، بين مصر والأردن وسوريا ولبنان.
وتتضمن المرحلة الثانية من المشروع، مد خط أنابيب للغاز الطبيعي من العقبة الى محطة الزرقاء شمال عمان، ومن منطقة الرحاب على الحدود الأردنية السورية الى جنوب دمشق وصولاً الى محطة الزهراني جنوب لبنان، ويبلغ طول الخط الرباعي 600 كيلومتر وتفوق تكلفته 800 مليون دولار.
وكان مشروع الغاز العربي يهدف على المدى البعيد الى نقل الغاز الطبيعي المصري الى محطة تكرير الزهراني في جنوب لبنان وميناء بانياس السوري على البحر المتوسط، ثم في مرحلة لاحقة الى قبرص وتركيا عام 2006. وبذلك يصبح هناك ما يسمى بمشروع سوق الغاز العربي الأوروبي المشرقي على نحو رسمي في الأول من شباط (فبراير) 2006، وهو مشروع إقليمي يشمل سوريا ومصر والأردن ولبنان بصفتها البلدان المستفيدة، إضافة إلى تركيا والعراق كمراقبين، والهدف الإجمالي من هذا المشروع هو ترويج تأسيس سوق غاز داخلية إقليمية للبلدان المستفيدة بحيث تكون مرتبطة بسوق غاز الاتحاد الأوروبي.
ويوضح عكاوي أنه في الإطار الميداني وعلى الأرض كانت تقارير الأعمال تكشف ان التباطؤ في انجاز أعمال انابيب الغاز ليست فنية حيث ان التلبد السياسي الذي تبلور في ذلك الوقت اوحى بوجود نزاع خلف الكواليس، بدليل كلام الرئيس الشهيد فيق الحريري عن جهات معوقة، يثير التساؤلات في خلفيات الموضوع النفطي الذي تعوقت مسيرته منذ منتصف التسعينات، والذي كان ليضع لبنان على السكة الصحيحة بدءاً من مطلع الالفية الجديدة لولا دخول الطقم السياسي بطريقة او باخرى، على خط قطاع الطاقة الذي هو من اكثر القطاعات المربحة في البلاد. وهكذا، بقي لبنان يفتقر الى اليوم لسياسة تعنى بتحديد نظام اقتصادي شامل للطاقة، او للتخطيط الاستثماري، او لسياسة الطلب والانتاج، او لتكلفة التجهيز.
ويذكر عكاوي أن الرئيس الشهيد كان قد حذّر في حينه من تسيير المعامل على هذا النحو لاكثر من 4 سنوات، لانها ستخسر من عمرها التشغيلي وتتقلص طاقتها الانتاجية الى 40 في المئة من الاجمالي، فضلا عن عدم ربط المعملين بشبكة النقل. وللاشارة فقط، تحتاج محطات الطاقة اليوم الى اعادة تأهيل تقدر تكلفتها بنحو 200 مليون دولار، علما ان انتاج المعامل بقي بواسطة الفيول او الغاز اويل، مما انعكس سلبا على سلامة المعامل وقدرتها التشغيلية، بدليل التقرير الذي رفعته الشركة الصانعة جنرال الكتريك الى كهرباء لبنان في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1999 اكدت فيه ان سبب تفجر المحرك (التوربين) الثالث في محطة بعلبك يعود لاستخدام الفيول الرديء، والذي ادى ذلك لاحقاً الى تعطل معملي صور وبعلبك كليا عن انتاج الطاقة.
ويضيف عكاوي ان مشروع استيراد الغاز الطبيعي كان سيوفر الكثير من الازمات التي يشهدها قطاع الطاقة اليوم، لو اعتمد قبل اعوام بحسب اطر رسمتها سياسات واستراتيجيات الرئيس الشهيد الحريري. فالمعامل انشئت لتوليد الطاقة على الغاز (دير عمار والزهراني) ولكن تمّ تشغيلها على الغاز اويل الاعلى تكلفة مالية وبيئية، فيما محطات التحويل 220 كيلو فولت في صيدا وبعلبك لم تنجز ولم تكتمل شبكة الـ220 كيلوفولت، ولم تتأمن على خط آخر مصادر الطاقة المناسبة لتشغيل المعملين. وقد تمّ استهلاك المعامل الاخرى وحُمّلت اكثر من طاقتها التشغيلية، وغابت عنها عمليات الصيانة الدورية بسبب انخفاض التمويل الاستثماري الخاص، فكان ان استهلكت معظم مدتها التشغيلية وباتت على قاب قوسين من التقاعد.
ويخلص عكاوي الى ان ثمة مأساة اقتصادية في تأخر لبنان عن اعتماد الغاز الطبيعي، وهو الذي بنى منتصف التسعينات معملين لتوليد الطاقة على الغاز الطبيعي وبتنا على ابواب الـ2010 وما زلنا نفتقر الى توجه لتحديد مصادر استيراد الغاز الطبيعي مستخدمين بدلا منه الغاز اويل المرتفع التكلفة. ان المأساة تكمن في الوفر الذي اضاعه لبنان، والمقدر بحسب وزارة الطاقة والمياه بين 100 و130 مليون دولار سنويا، مما يعني ان لبنان كان قادرا بهذا الوفر على بناء مصنع لتوليد الطاقة كل 4 سنوات، اذا ما كانت تكلفته تقارب 500 مليون دولار.
ويقول عكاوي ان مشروع استجرار الغاز المسال بعد بناء محطة نهائية خاصة به هو اكثر المشاريع اهمية في قطاع الطاقة على المديين القصير والمتوسط، لانها تمنح لبنان استقلالية مهمة بالنسبة الى استيراد الغاز، وتتيح تعدد مصادر الاستيراد عبر عقود طويلة، كما تعطي لبنان قدرة تفاوض كبيرة مع هامش مناورة اوسع في الاسعار. اما في حال نشوء مشكلات في دولة المصدر، فيمكن الانتقال بسهولة الى مصدرين آخرين.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.